منذ عام 2011، ومع بدء الانتفاضة السورية ضد حكم "البعث"، بدأت الدول العربية والإقليمية والمجتمع الدولي بفرض مقاطعة وعقوبات على النظام السوري السابق بسبب الجرائم التي يرتكبها في حق الشعب السوري، وبصورة تدريجية بدأت العقوبات، خصوصاً الأميركية، تزداد، حتى توجت في يونيو (حزيران) 2020، بقانون "قيصر لحماية المدنيين السوريين"، الذي وقعه الرئيس الأميركي دونالد ترمب قبل أشهر من نهاية ولايته الرئاسية الأولى، وعلى رغم كل هذه العقوبات استطاع النظام السوري البقاء على قيد الحياة حتى أطاحته عملية "ردع العدوان" في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.
بقاء النظام اقتصادياً كان على حساب الشعب السوري الذي وصلت نسبة الفقر فيه إلى ما يقارب 90 في المئة من إجمال عدد السكان الذين بقوا في البلاد، وعلى رغم ذلك، استخدم أساليب ملتوية في محاولة للالتفاف على العقوبات لكن غالب هذه الأساليب باءت بالفشل، ومع هذا يرى مراقبون أن هناك طرقاً كثيرة يمكن للاقتصاد المضي قدماً من خلالها من دون انتظار رفع العقوبات، إلا أن جميع هذه الطرق تشترط بصورة أساس الاستقرار الأمني والسياسي.
سقط النظام ولم تسقط العقوبات، ولا تزال النقاشات في الأروقة الغربية والأميركية مستمرة بخصوص هذه القضية، لكن من جانب آخر في ظل هذه العقوبات يمكن للحكومة السورية والمجتمع المدني والشركاء المحليين اتخاذ كثير من الخطوات التحسينية من دون انتظار رفع هذه القيود الدولية، وذلك لتخفيف معاناة المواطنين وتعزيز الاقتصاد الداخلي، من أبرز هذه الخطوات تعزيز الإنتاج الزراعي والمحلي، بتوسيع الرقعة المزروعة وتشجيع الفلاحين على استغلال الأراضي البور والمهملة عبر توفير مستلزمات الإنتاج (بذور، أسمدة عضوية... إلخ) وتدريبهم على التقنيات الموفرة للمياه مثل الري بالتنقيط، وكذلك دعم الصناعات الحرفية والمشاريع الصغيرة، مثل إطلاق برامج تمويلية بسيطة بشروط ميسرة لدعم الحرفيين، وربطهم بأسواق محلية وإقليمية عبر معارض دورية ومنصات إلكترونية، إضافة إلى تعزيز دور القطاع الخاص والمبادرات المحلية، وتبسيط إجراءات التأسيس والترخيص كإلغاء الروتين الزائد في تسجيل الشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتقليص المدة والأتعاب المطلوبة.
وبما أن الحكومة السورية الجديدة تلقى دعماً عربياً وإقليمياً واسعاً، يمكنها أثناء فترة انتظار رفع العقوبات العمل على إصلاح شبكات الكهرباء والمياه، وصيانة خطوط التوتر العالي ومحطات الضخ ومحولات المياه، مما يخفف انقطاع التيار ويقلل خسائر المياه، فضلاً عن تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، ويتجلى ذلك من خلال نشر قوائم المشاريع المالية وموازنات الوزارات بشكل دوري، يضاف إلى كل هذا العمل على تعزيز التعليم الفني والمهني من خلال إعادة تأهيل المعاهد وتحديث المناهج لتلبية حاجات سوق العمل.
990 قانوناً
يقول الأكاديمي والمستشار الاقتصادي زياد أيوب عربش، إن "السياق الاقتصادي الحالي ضاغط على شرائح واسعة من المجتمع مع تعثر عودة اللاجئين، إذ بدأ مفعول الوعود التي برزت مع نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي ومع تشكيل الحكومة الجديدة بالتلاشي، إضافة إلى ذلك تأخر الإقلاع بالنشاط الاقتصادي وتلبية متطلبات النهوض المبني على أسس الاستدامة، وعدم وضوح الرؤية الكلية للمستقبل القريب وبخطة مصاغة بإحكام وبالتشاركية الحقيقية والفعلية مع كل فعاليات المجتمع وعلى رأسها قطاع الأعمال والاتحادات والغرف المهنية وممثلو المجتمع الأهلي وجمعيات المناصرة، بخاصة أن الإدارة الأميركية سمحت بتجاوز هذه العقوبات جزئياً لقطاعات محددة ومدة ستة أشهر تنتهي بعد شهرين قد لا تتجدد أو تتجدد لعامين، وكذلك الأمر مع دول الاتحاد الأوروبي التي منذ شهرين جمدت العقوبات على سوريا ولقطاعات محددة مدة عام وقد تجدد أو لا، لذا لا يمكن التعويل على معطى مرهون بالشأن السياسي، ولا بد من استعجال خطوات النهوض وبوتيرة تتوافق مع التحديات وليس بالتصريحات الإيجابية التي قد لا تتحقق، فالعقوبات لا تمنع من صياغة الرؤية المطلوبة وتحديد أدوار الفاعلين وتسخير طاقات المجتمع بالداخل ومؤازرة المغتربين وجذب رأس المال المغترب العربي والسوري، بتلبية الشروط الموضوعية وعلى رأسها الأمن والأمان والشفافية بالتعاطي مع أمور جوهرية بوجوب وجود ناطق عام للحكومة وبخاصة للفريق الاقتصادي، وإعادة النظر بالبيئة الناظمة، إذ إن هناك ما يقارب 990 قانوناً ومرسوماً ولوائح كان جزء كبير منها مكبلاً للعمل الاقتصادي ككل وأصبحت اليوم بالية، فلا يمكن انتظار رفع العقوبات وبعدها نبدأ بالعمل على تهيئة بيئة الأعمال".
انهيار مرتقب قبل سقوط النظام
ويرى عربش أن "الاقتصاد السوري يمر بمنعطف كبير ومفصلي وينحو بديناميكيات جديدة (إيجاباً وسلباً) لا تعكس عملاً مؤسساً لنهوض مستدام، ففي العقود الماضية كان يسجل الاقتصاد ككل جملة من تراكم الاختلالات البنيوية، من انكسار النموذج التنموي منذ 2011 الذي بالأصل كان يعاني تشوهات قطاعية عدة، زادت حدتها أخيراً بزيادة حصة الاقتصاد غير الشرعي والممارسات الملتبسة بتصدير الممنوعات، ومع زيادة الحصار على المنافذ البرية إلى جانب تآكل القدرة على الإنتاج من القطاعات الحقيقية (الزراعة، والصناعة التحويلية)، ومع اشتداد التباين المناطقي وبين المحليات وتقطع أوصال البلاد تحديداً من مناطق شمال شرقي الفرات (موارد إنتاج الناتج المحلي الإجمالي كالنفط والغاز والمياه وسلع إستراتيجية عدة) ومع تدهور سعر الصرف وعدم اتخاذ أي تدبير جدي لمنع انهيار الاقتصاد (الذي كان سينهار حكماً حتى ولم يسقط النظام)، والملامح بعد السقوط كانت أنه من الطبيعي أن يمر الاقتصاد بمرحلة مخاض وبآثار ليست بمجملها إيجابية، فجرى تفكيك الصورة من دون إيجاد بديل، وهذا الأمر ساد بتجارب كهذه (ينخفض الناتج ريثما يجد الاقتصاد محركات نموه التقليدية والجديدة)، لكن بالحال السورية ونتيجة تشابك الشأن الاقتصادي بالوضع العام بما فيها الاستقرار، وعدم رفع العقوبات إلا جزئياً ومرحلياً ومطامع عدد من اللاعبين، وعلى رغم مساعدة دول عربية عدة مع تركيا فلم يوضع مسار الاقتصاد على السكة الصحيحة".
مآخذ على الاقتصاد السوري الحالي
يضيف المستشار الاقتصادي أنه "من المآخذ على الاقتصاد السوري الحالي فتح الحدود ومن دون جمارك، ومن ثم نزف القطع الأجنبي وإغراق الأسواق ببضائع وسلع تهدد النسيج الصناعي والإنتاج الزراعي، إضافة إلى رفد عشرات الآلاف من الموظفين وبصورة لافتة للدهشة، مع تصريحات متناقضة بخاصة لغير العارفين بأن الخزانة فارغة، وهجرة عديد من الكوادر، إذ كان هناك بطالة مقنعة كبيرة وتوظيف وهمي، لكن العمل كان يجب أن ينصب على تعزيز دور المؤسسات وليس تقزيمها، والمجتمع في حاجة إليها، ونتحدث عن مئات الآلاف والملايين من السوريين وبخاصة المهجرون مع الحاجات الكبيرة إلى معالجة عشرات آلاف المعاقين، ولمزيد من مؤسسات الرعاية وتلك التربوية والتعليمية ومؤسسات الدمج، فأصبحنا نرى جيلاً من الشباب يمارسون مهناً وأعمالاً خارج القنوات الرسمية، وهم في حاجة إلى الإعالة والتأهيل المهني، إضافة إلى بروز أعناق زجاجات عدة، التي ليس أقلها الطاقة والبنيات التحتية والتي لم تعالج بالصورة الصحيحة، وليس من المعقول زيادة ساعات التوليد من دون التصدي الجدي لمسألة الهدر، ففي الأسابيع الماضية ولنهاية الشهر المقبل تستفيد سوريا من المنحة القطرية التي استثنيت من العقوبات، لكن هل ننتظر منحة جديدة أم نجهد في تخفيض الفاقد، ومن ثم الحاجة إلى التمويل؟ كذلك ليس من المنطقي أبداً غياب سياسة مصرفية غير تلك المتمثلة بحبس السيولة أو التصريح بالخصخصة من دون دراسة تعرض على الجميع، ومن ثم تضييق الفرص إذا لم نحسن إدارة المرحلة الحالية لا سيما أن الوقت ينفد لجهة بقاء الأمل مرتفعاً للمغتربين والراغبين بالعودة، ودرء الإحباط عند الصناعيين".
جولة واشنطن
ويتابع عربش أن "إنتاج الثروة وتوزيعها وإعادة توزيعها تتطلب نهجاً اقتصادياً محكم الصياغة، أي من خلال آليات الدعم والضرائب والسياسات المصرفية والاستثمارية والصناعية والتجارية والتوجيه الاقتصادي لمسألة التسعير، ضمن تكامل كل هذه المكونات وبصياغة خطة إنقاذ اقتصادية يمكن وضع خريطة الطريق للأشهر المقبلة، أما السيناريوهات المحتملة في المستقبل القريب، فإن سوريا تشهد ببعدها الدولي حراكاً حميماً وممدوحاً إذ قد يعود الاقتصاد السوري إلى التشميل الدولي، بخاصة أن أجواء مفاوضات الوفد السوري مع البنك الدولي وصندوق النقد بواشنطن مبشرة للحصول على منح مالية قد تصل إلى 500 مليون دولار لتأهيل جزء من البنية التحتية للكهرباء وهيكلة الرواتب في القطاع العام، كذلك فإن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يسعى إلى فك الحصار على أموال سورية مجمدة في دول الاتحاد الأوروبي وتسخيرها في مشاريع تنموية، إضافة أيضاً إلى مسعى كل من السعودية وقطر وتركيا إلى مؤازرة سوريا، وعلى رغم ذلك فلا بديل عن خطة اقتصادية وبمعالجات يتجاوز معها الاقتصاد السوري أعناق الزجاجات وبمؤشرات زمنية واضحة مع آليات التتبع والمحاسبة، أي مصفوفة خوارزمية مبسطة وبصفحة واحدة كخريطة طريق مع الإحاطة بكل الاحتمالات لتجنب التبرير لاحقاً، فسوريا تستحق كل جهد نبيل من لملمة جراحها إلى نهوضها ولما فيه خير للجميع ولكامل الإقليم".
اندبندنت عربية