رهانات أميركا الكبرى في الشرق الأوسط
05/12/2025




سيرياستيبس

في الشرق الأوسط، حمل ربع القرن الأول من القرن الـ21 للولايات المتحدة سلسلة من التهديدات والأخطار المتواصلة، بما في ذلك صدامات عسكرية مباشرة، بدأت بهجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) الإرهابية وانتهت هذا الصيف بالضربات الأميركية - الإسرائيلية على برنامج إيران للأسلحة النووية. وعلى رغم أن أسباب هذا الاضطراب سبقت أحداث الـ11 من سبتمبر واستمرت بعدها، فإن حجم الرهانات والمصالح الحيوية الأميركية في المنطقة خلال الأعوام الـ25 الماضية لم يسبق أن كانت أعظم مما هي عليه.

فالانعزاليون الجدد الذين يقللون من شأن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط باعتبارها محدودة أو بعيدة جداً، يتجاهلون في الواقع حقائق التاريخ، بدءاً بحروب توماس جيفرسون ضد قراصنة البربر مطلع القرن الـ19. أما الانخراط الأميركي الحديث في المنطقة، فيعود للقاء فرانكلين روزفلت بالملك عبدالعزيز آل سعود في الـ14 من فبراير (شباط) عام 1945 على متن السفينة "يو أس أس كوينسي" في قناة السويس، في خضم الحرب. وما لبث أن أعقبت ذلك تحديات جسيمة، بدءاً بالحرب الباردة وقيام دولة إسرائيل الحديثة.

وبطبيعة الحال، تغيرت القضايا التي واجهتها واشنطن في المنطقة على نحو جذري منذ عام 1945، وستواصل التغير في المستقبل، غالباً بطرق لا يمكن التنبؤ بها. ومع ذلك، تظل الجغرافيا والتجارة والموارد الطبيعية وروابط التاريخ والثقافة والدين، وهي الركائز التقليدية للمصلحة الوطنية، عناصر فاعلة في تحديد المصالح والسياسات. والقضية اليوم ليست في تفسير سبب انخراط الولايات المتحدة العميق في الشرق الأوسط، فهذا أمر يتجادل حوله المؤرخون، بل في سبب اعتقاد بعضهم بأن هذه المصالح تراجعت إلى درجة تسمح لواشنطن بتجاهل ما يجري فيه. وتكرار الانعزاليين الجدد للحجة نفسها في شأن تراجع مصالح أميركا في أوروبا يؤكد ضيق أفق رؤيتهم الدولية.

ومن المغالطات كذلك الادعاء بأن الولايات المتحدة تفتقر إلى الموارد اللازمة لردع التهديدات التي تستهدف مصالحها ومصالح حلفائها وأصدقائها. وهذه القراءة الخاطئة لفكرة وجود قيود على قدرات الولايات المتحدة هي الأساس النظري للدعوة إلى التركيز على التهديد الصيني والتخلي عن الاهتمام الجاد بمصالحها في بقية العالم. ولا شك في أن النزاعات في أفغانستان والعراق وإيران استنزفت جانباً كبيراً من الموارد الأميركية خلال الربع قرن الماضي، وربما ستواصل ذلك، بيد أن ما يحد من القوة الأميركية ليس نقصاً في الموارد، بل غياب الإرادة والعزم على اتخاذ ما يلزم من خطوات. والأجدى أن تكبح الولايات المتحدة التوسع غير المنضبط في الإنفاق الداخلي، وأن تركز على التهديدات الخارجية التي تستهدف نمط الحياة والاقتصاد اللذين أسهما في ازدهار أميركا والعالم.

يعول كثرٌ على "نظام دولي قائم على القواعد" لضمان الأمن والسلام العالميين، لكن هذا التصور ليس إلا وهماً يمنح تطمينات زائفة ويترك غير الحذرين عرضة للخطر. ولنسأل هنا لماذا يتصرف فلاديمير بوتين وكأنه لم يسمع بهذا النظام أصلاً؟ وهل يبدو أن شي جينبينغ يعترف به، فيما تبقى تايوان وبحر الصين الجنوبي مسرحاً لأخطار متصاعدة؟ وبالتأكيد لم يظهر صدام حسين ولا آيات الله في إيران أية إشارة إلى اعترافهم بهذا النظام. والقائمة تطول.

إن قيام نظام دولي مستقر لا يتحقق بالشعارات أو بالأمنيات الطيبة، بل يستند إلى ركائز صلبة من القوة. فالتحديات التي تواجهها واشنطن على الساحة العالمية تتصاعد، كما أن ضعف الإنفاق الدفاعي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة خلق مشكلات حقيقية للولايات المتحدة وحلفائها. ومع ذلك، لا التهديدات  الدولية ولا القدرات الأميركية ثابتة أو نهائية، فحين تتوافر القيادة الواعية والرؤية الاستراتيجية، تستطيع الولايات المتحدة حشد ما يلزم من موارد للتعامل مع جملة من التهديدات في آن واحد.

في ظروف الشرق الأوسط الراهنة، يصبح التغاضي عن المحور الذي يزداد متانة بين بكين وموسكو مخاطرة حقيقية. فهذا التحالف الذي يصفه الطرفان بأنه "شراكة بلا حدود"، لم يعد مقتصراً على تهديدات الصين في شرق آسيا أو تهديدات روسيا في أوروبا، إذ إن للمحور امتدادات فاعلة حول العالم، أبرزها إيران في الشرق الأدنى، وهي لاعب ينبغي التعامل معه عاجلاً لا آجلاً. وهذا بالضبط ما يجعل استمرار الحضور الأميركي القوي في هذه المنطقة أمراً حيوياً للولايات المتحدة ولحلفائها. فعلى امتداد قوس جغرافي واسع يمتد من أطراف الصين المطلة على المحيطين الهندي والهادئ، مروراً بجنوب غربي آسيا، وصولاً إلى أوروبا، تتشكل علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية تتطلب تعزيزاً وتطويراً بما يعود بالنفع على جميع الأطراف.

من جديد، هناك قضايا كثيرة على المحك، تجمع بين تهديدات جديدة وملفات لم تحسم بعد. فقد فشلت حملة إيران المعروفة بـ"حلقة النار" ضد إسرائيل فشلاً ذريعاً، غير أن طهران ماضية في إعادة بناء وكلائها المسلحين وبرنامجها النووي. أما القبول بعدوان الكرملين غير المبرر على أوكرانيا، فلن يؤدي إلا إلى تشجيع مزيد من العدوان من جانب موسكو وبكين وحلفائهما. ويستمر اندفاع كوريا الشمالية نحو السلاح النووي، فيما يظل مصير نظام مادورو الديكتاتوري في فنزويلا بلا حل.

ولأن الشرق الأوسط لا يزال منطقة محفوفة بالخطر، فإن طبيعة المصالح الأميركية ومصالح حلفائها هناك تبدو أوضح من أي وقت مضى. ففي الخليج ومحيطه، انضمت السعودية أخيراً إلى ستة من الحلفاء الرئيسين للولايات المتحدة من خارج "الناتو"، وهم البحرين ومصر وإسرائيل والأردن والكويت وقطر، مع إمكان انضمام شركاء آخرين في المستقبل. وعلى أمل أن يكون ربع القرن المقبل أكثر استقراراً من سابقه، تبقى فرص تحقيق السلام والأمن أعلى بكثير متى حافظت الولايات المتحدة على حضورها القوي والفاعل في المنطقة.

اندبندنت عربية



المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=131&id=203858

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc