لم يجد جمال الخضري، صاحب شركة «فومكو» للإسفنج، ما يمكن الانتفاع به من مصنعه المدمَّر. فالقذائف الإسرائيلية أتت على 80% من خطوط إنتاج المصنع ومخازنه، ونقلت صاحبه، وعشرات العاملين لديه، من صفوف العاملين إلى صفوف العاطلين من العمل. المصنع المُقام على طريق صلاح الدين شمال غزة، يُعدُّ واحدةً من 50 منشأة صناعية توفِّر الوظائف لآلاف العمّال، كانت إسرائيل قد شرعت في تدميرها منذ اليوم الثالث من الحرب.


يقول محمد حمد، وهو مدير مركز الدفاع المدني الذي تعاملت وحداته مع حرائق المصانع التي استمرّت لأيّام، إن الطائرات الحربية الإسرائيلية تعمَّدت استهداف هذه المنشآت بقذائف الفوسفور الأبيض، ما زاد من حدّة اشتعال النيران وتمدُّدها. ويفسّر رجل الدفاع المدني بأن هدف الاحتلال من قصف المصانع، كان لصفتها الاقتصادية وما تمثّله من رافد مهمّ للاقتصاد المحلي. يكمل حمد: «لا يمكن لإسرائيل أن تزعم بأن الوحدات الاقتصادية المستهدَفة، كانت تحوي أنشطة للمقاومة، حيث الصواريخ المستخدَمة هدفها الحرق والتخريب، وهي ليست ذات صفة اختراقية واهتزازية كالتي تزعم إسرائيل حين تستخدمها، بأنها تهدف للوصول بها إلى ما تحت الأرض وليس ما عليها».
وعلى الرغم من عدد المصانع المحدود الذي طاوله القصف الإسرائيلي خلال 11 يوماً من العدوان، إلّا أن حجم الخسائر الاقتصادية يفوق ما تسبَّبت به 51 يوماً من الحرب عام 2014. يقول الخبير الاقتصادي، محمد أبو جياب: «الاستهداف جاء على نحوٍ كلّي ومباشر للمنشآت المستهدفة؛ بمعنى أن القصف لم يتسبَّب بتدمير جزئي لبعض المصانع، بل دمَّر المخازن وخطوط الإنتاج على نحوٍ كامل».
حدود الاستهداف الإسرائيلي للمصانع المنتِجة والتي توفّر مصدر دخل لمئات الأسر، لم تنحصر بالمصانع المُقامة في المناطق القريبة من السكان، بل طاول القصف الإسرائيلي 15 منشأة اقتصادية مهمّة، في داخل المنطقة الصناعية الملاصقة للسياج الحدودي، والتي تمتلك صفة أمنية خاصّة، كونها تخضع للرقابة الأمنية الإسرائيلية المباشرة، وتحكم عملها جملة من الاتفاقات التي عقدتها جهات دولية، مثل الاتحاد الأوروبي و»البنك الدولي» مع الاحتلال. يوضح أبو جياب: «هذه المرّة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل المدينة الصناعية التي تحوي 60 مصنعاً نوعيّاً فقط، وقد دمّرت ثلث تلك المصانع التي توفّر فرص عمل لـ2000 عامل، وأحدثت أضراراً كبيرة في البنية التحتية للمدينة، ما يجعلها بحاجة إلى تأهيل كلّي لكي تعيد فتح أبوابها من جديد». يتابع الخبير الاقتصادي: «ما يميّز السلوك الإسرائيلي تجاه القطاع الصناعي في هذه الحرب، هو كثافة التدمير الذي تعرّضت له المنشآت، إذ إن 50 منشأة فقط تجاوزت الخسائر فيها حدود الـ45 مليون دولار، بينما تضرَّر، في عام 2014، ما يزيد على 1000 منشأة، ولم تتجاوز الخسائر، في حينه، سقف الـ150 مليون دولار».
وتفيد تقديرات أصدرتها جهات عمالية نقابية، بأن القطاع الصناعي فقد 20 ألف فرصة عمل خلال فترة الحرب، نتيجة استهداف المصانع بشكل مباشر، أو توقُّفها عن العمل بسبب الظروف الأمنية. ومن الجدير ذكره، أن القطاع الصناعي بقي، منذ انتهاء حرب عام 2014، خارج حسابات الإعمار، إذ لم يتم تعويض 70% من أصحاب المصانع التي تمّ تدميرها عن خسائرهم. وبحسب إحصاءات وزارة الأشغال، فإن الأضرار التي لحقت بالقطاع الصناعي، في الحرب الماضية، بلغت قيمتها 150 مليون دولار، ولم تقدِّم الدول المناحة سوى 20 مليوناً استفاد منها بعض أصحاب المصالح الإنتاجية على شكل إغاثات عاجلة.

المصانع المدمَّرة منتقاة بعناية
يُقدِّم حجم الخسائر الكبير في القطاع الصناعي، مقارنةً بعدد الوحدات المدمَّرة، تصوّراً عن الصبغة الانتقائية للمصانع التي جرى استهدافها، إذ يشترك مصنع شركة «كوكاكولا» العالمية للمشروبات الغازية التي تمتلك تأميناً من «البنك الدولي»، وجرى افتتاحه في المدينة الصناعية عام 2014 بوساطة أميركية كأحد بنود خطة جون كيري الاقتصادية، مع مصانع شركة «بشير السكسك» للأدوات الصحية وعدد من مصانع الملابس ومواد التنظيف، بحيويتها لجهة استيعابها لعدد كبير من العاملين، بالإضافة إلى تصدير منتجاتها إلى خارج حدود القطاع. مفاعيل هذا النهج، تؤثّر على القطاع الصناعي ليس على المدى القريب فحسب، إنّما تمتدّ إلى خلق حالة من عدم اليقين لدى المستثمرين الأجانب، ولا سيما في قطاعات النسيج والأخشاب، الأمر الذي يقدِّر أبو جياب أن انعكاساته ستطاول التعاقدات الخارجية مع المصانع المحلية، وحتى على مستوى القطاع الزراعي الذي جرى تدميره على نحو مدروس أيضاً.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ؛ إذ أطلق مربّو الدواجن والمواشي اللاحمة في القطاع، نداءَ استغاثة بعد منع إسرائيل دخول الأعلاف إلى غزة، الأمر الذي يهدِّد الأمن الغذائي الذي يوفّره هذا القطاع الحيوي لسكان غزة. وبحسب إحصاءات وزارة الزراعة، فإن 15 ألف رأس عجل، و200 بقرة حلوب، فضلاً عن 3 ملايين دجاجة، ستحكم عليها إسرائيل بالإعدام، إذا لم تسمح، خلال أيّام، بدخول الأعلاف عبر معبر كرم أبو سالم الذي يعمل بشكل جزئي منذ انتهاء الحرب، علماً بأن عدد الطيور النافقة، حتى اليوم، تجاوز الـ350 ألفاً.

واجهة غزة التجارية في المهداف أيضاً
المشهد الذي ستخرج فيه من المدينة الصناعية أقصى شرق مدينة غزة، سيرافقك إلى قلب المدينة؛ فحي الرمال (وسط) الذي يُعدُّ المركز التجاري للقطاع، دمَّرت الحرب 50% من محالّه الكبرى. وتُقدَّر خسائر المتاجر المدمَّرة على نحو كلّي بمئات الملايين، فيما يفوق عدد العمال الذين فقدوا مصدر رزقهم الآلاف.
لكنّ المشكلة التي يواجهها القطاع الصناعي، ليست في حجم الخسائر المادية فحسب، بل في الأزمات التي تعترض طريق إعادة إحياء تلك المنشآت من جديد، خصوصاً إذا ما علمنا أن إسرائيل تمنع، منذ عام 2000، دخول المعدّات الصناعية الثقيلة للقطاع، وأن مصنعاً واحداً، مثل «كوكاكولا» الذي تم بناؤه نتيجةً لاتفاق سياسي، استغرق ثلاث سنوات من البناء كي يبدأ بضخ منتجاته في السوق المحلية. وهنا، يقدِّر وكيل وزارة الأشغال، ناجي سرحان، أنه إذا جرى التعامل مع القطاع الصناعي بالنهج نفسه الذي كان عليه الحال عام 2014، فإن إعادة الحياة لتلك المنشآت ستستغرق سنوات. ويشير سرحان، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن الإحصاءات التي تصدرها الوزارة في ما يتعلّق بالقطاع الصناعي تحديداً، تحمل جدولين: الأوّل مخصّص لما هو متراكم منذ السنوات الماضية، والآخر، لما هو متعلّق بالعدوان الحالي، إذ تعمل «الأشغال» على إصدار وثيقة شاملة لإعادة إعمار القطاع، تأخذ في حسبانها معالجة الآثار التي خلّفتها ثلاث حروب ماضية.

سيرياستيبس -الاخبار