
سيرياستيبس :
تَروج في سوريا، اليوم، مجموعة من التصوّرات العامة التي تتجاوز طاقة البلاد الفعلية، أو تتعارض مع حجم مواردها الطبيعية والاقتصادية المتاحة. فإلى جانب الاعتقاد المتكرّر بامتلاك سوريا ثروة نفطية وغازية ضخمة لم تُستثمر بعد، يُعاد تداول فكرة مفادها بأن القطاع الزراعي قادر على توفير الغذاء لعدد يفوق بأضعاف عدد السكّان المقيمين حالياً. وإذ لا يعدّ هذا النوع من السرديات جديداً؛ إذ سبق أن ظهر قبل سقوط النظام السابق بأشهر قليلة، وتمّ في حينه نسبُه إلى شخصية اقتصادية أميركية بارزة، وذلك في سياق التضليل وتضخيم التوقعات. غير أن الإشكالية لم تَعُد مقتصرة على «اختلاق الآمال»، بل باتت تتعدّاه إلى استخدام مفهوم «الاكتفاء الذاتي» بصيغته التقليدية، التي وجّهت السياسات الزراعية في سوريا لعقود طويلة، في حين أن التحوّلات المناخية العميقة، والضغوط التي تعرّضت لها موارد البلاد خلال سنوات الحرب، إضافة إلى تراجع القدرة على تعويض النقص، كلّها عوامل تستدعي إعادة صياغة فهم الاكتفاء الذاتي، بحيث يتركّز على الاستدامة المائية والبيئية من جهة، وعلى تأمين الغذاء بتكاليف اقتصادية محتملة من جهة ثانية.
يمكن الاستناد إلى ثلاثة مؤشرات رئيسية لتقدير إمكانية رفع إنتاجية الموارد الزراعية السورية، وترسيم حدود الزيادة المحتملة في السنوات المقبلة. يتمثّل المؤشّر الأول بالملفّ المائي، باعتباره العامل الأكثر تأثيراً في القطاع الزراعي. في هذا المجال، سُجّل، خلال الأعوام الأخيرة، انخفاض حادّ في كميات الهطول المطري، تفاقَم بصورة واضحة في الموسم الأخير؛ إذ وفقاً للبيانات التي رُصدت حتى منتصف أيار الماضي في 23 مدينة ومنطقة، كانت اللاذقية المنطقة الوحيدة التي شهدت هطولات تقارب المعدّل السنوي بنسبة بلغت 80%، في حين لم تتجاوز الهطولات نسبة الـ10% في مناطق الشرق والجزيرة، ونحو 20% للمناطق الجنوبية والوسطى والشمالية. وانعكس هذا التراجع مباشرةً على الزراعة البعلية، التي تشكّل، وفقاً لآخر إحصاء رسمي، ما نسبته 73% من إجمالي الأراضي المزروعة فعلاً. كما طال تأثير الجفاف الموارد المائية السطحية والجوفية، وهو ما تُظهره بوضوح صور جفاف مجرى نهر العاصي في مدينة حماة خلال المدة الأخيرة. ويُضاف إلى ذلك، أن 50% من الأراضي المرويّة تعتمد على الآبار الارتوازية، و17.7% على الأنهار والينابيع، و31% على مشاريع الري الحكومية، ما يعني أن الضغط على المصادر الجوفية بات أعلى من قدرة التجدّد الطبيعي في عدد من المناطق، وخاصة أن التقديرات الرسمية تتحدّث عن أن عدد الآبار المخالفة التي تمّ حفرها خلال سنوات الحرب زاد عن 120 ألف بئر.
خيار الاستيراد قد يكون أكثر جدوى من توسيع الاستثمار الزراعي في ظلّ النقص الحادّ في الموارد المائية
ومع بداية الموسم الزراعي الماضي، أحجم عدد كبير من المزارعين عن زراعة محاصيلهم الشتوية، بسبب تأخّر الهطول وتزايد المخاطر المالية. كما أدّى جفاف عدد من الآبار وضعف تدفّق الينابيع إلى انخفاض ملموس في إنتاج المحاصيل المروية. وبذلك، يتصدّر العجز المائي المتراكم قائمة التحدّيات التي تعيق استعادة مستويات الإنتاج السابقة، فضلاً عن عدم واقعية الحديث عن مضاعفة الإنتاج لسدّ احتياجات سكانية أكبر بمرات عدّة. وتشير تقديرات وزارة الزراعة لعام 2021، إلى وجود فجوة غذائية محتملة تبلغ ثلاثة ملايين طنّ من المنتجات الزراعية والحيوانية خلال الفترة ما بين عامَي 2025 و2030.
المؤشر الثاني يتعلّق بالأراضي القابلة للزراعة وغير المستثمَرة، التي يمثّل توسّع رقعتها مصدر الأمل الوحيد لرفع مستوى الإنتاج. إلّا أن المعطيات الرسمية لعام 2023، تشير إلى أن نسبة الأراضي الزراعية غير المستثمَرة على مستوى المحافظات، لا تُجاوز الـ10.25% من إجمالي الأراضي القابلة للزراعة. وفي حين تبرز محافظتا القنيطرة وريف دمشق بنسب أعلى مقارنة ببقية المحافظات؛ إذ تصل النسبة في القنيطرة إلى 79%، وهو ما يعود إلى طبيعة وضعها الحدودي وظروف المواجهة مع إسرائيل، تبلغ النسبة في ريف دمشق 34.7%. أما بقية المحافظات، فالنسب فيها محدودة وغير كافية. وبهذا، فإن رهان زيادة الإنتاج عبر استصلاح مساحات غير مستثمَرة، يظلّ رهاناً محدوداً جداً، وخاصة أن المناطق ذات المساحات الواسعة، كالجزيرة والشرق، تعاني من العجز المائي الذي يشكّل العائق الأكبر أمام أيّ توسع زراعي واقعي.
ويبقى المؤشر الثالث متمثّلاً في القدرة على تطوير أصناف وراثية جديدة من المحاصيل، قادرة على التكيّف مع تراجع الهطولات المطرية وتغيُّر توزيعها الجغرافي، وتحسين إنتاجية الهكتار. وكانت وجّهت وزارة الزراعة اهتمام «الهيئة العامة للبحوث الزراعية»، خلال العامين الماضيين، نحو هذا الاتجاه، ليس بهدف زيادة الإنتاج الكلّي فقط، بل بغرض المحافظة على الحدّ الأدنى من الاستقرار الإنتاجي في ظلّ التبدلات المناخية. وقد شهدت البلاد، في العقود السابقة، تجربة إيجابية في ذلك المجال؛ فمنذ عام 1991، بدأ الإنتاج الوطني من القمح بالارتفاع، ليسجّل العام المذكور 2.351 مليون طن، ويرتفع الإنتاج عام 1995 إلى 4.184 ملايين طن، ثمّ يبلغ في 2006 نحو 4.932 ملايين طن، وهي أعلى كمية إنتاجية مسجّلة حتى اليوم. غير أن التساؤل عن إمكانية تحقيق عشرة ملايين طن في المستقبل، حتى مع تطوير أصناف شديدة المقاومة للجفاف، يظلّ سؤالاً غير مبنيّ على معادلات إنتاجية واضحة، نظراً إلى ثبات مساحة الأراضي وتراجع الموارد المائية.
وعليه، فإن الهدف الأكثر واقعية هو السعي إلى إعادة الإنتاج إلى مستوياته المسجّلة قبل عام 2011، شرط ضبطه ضمن محدّدات تتعلّق بالاحتياجات المحلية، وتوفر مستلزمات الإنتاج والطاقة، وتكيّف المحاصيل مع بيئة زراعية أكثر هشاشة.
يتّفق عدد من الباحثين الزراعيين والاقتصاديين على ضرورة إعادة تعريف مفهوم الاكتفاء الذاتي، مبيّنين أنه لم يَعُد يعني تلبية الاحتياجات الغذائية من الإنتاج المحلّي حصراً، بل تلبيتها بأقلّ كلفة ممكنة على الاقتصاد الوطني. وعليه، فإنه إذا كان استيراد محصول معيّن أقلّ كلفة من إنتاجه محلّياً، فإن الاستيراد يُعدّ خياراً اقتصادياً مبرّراً. وبالفعل، تبنّى عدد من الدول هذا الخيار - رغم قدرتها النظرية على رفع إنتاجها -، وذلك بهدف الحفاظ على استدامة مواردها الطبيعية، وتجنّب استنزافها المبكر. في المقابل، لا يزال المنطق المشار إليه غائباً عن التوجّهات السائدة في سوريا، ما يرفع احتمالات الدخول في مرحلة من «النضوب المبكر» للموارد الزراعية والمائية المتاحة.
المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=132&id=204015