النحاس… شريان الثورة التكنولوجية الجديدة
17/12/2025
في
خضم السباق العالمي المحموم نحو الذكاء الاصطناعي والتحول الأخضر، يكتشف
العالم أن المعدن الأكثر استراتيجية في الثورة الصناعية الجديدة ليس الذهب
ولا الليثيوم بل النحاس، أو كما لخصته "فايننشال تايمز" بدقة لافتة إلى أن
العالم دخل رسمياً عصر "جوع النحاس"، في توصيف يعكس حجم الاختلال المتنامي
بين الطلب المتسارع والإمدادات المحدودة.
هذا التحول لم يأت من فراغ، بل نتيجة تداخل غير مسبوق بين التكنولوجيا والطاقة والاقتصاد، إذ بات النحاس عنصراً لا غنى عنه في كل ما يشغل العالم الحديث.
معدن لا يمكن استبداله
يعد النحاس حجر
الأساس في أي بنية كهربائية، بفضل قدرته العالية على نقل الكهرباء وكفاءته
مقارنة بالبدائل، ومع صعود الذكاء الاصطناعي، تضاعفت الحاجة إلى مراكز
بيانات عملاق تتطلب شبكات كهرباء كثيفة، مستقرة، وقادرة على العمل على مدار
الساعة من دون انقطاع.
في الوقت نفسه يدفع التحول إلى الطاقة
المتجددة نحو توسعة غير مسبوقة في شبكات نقل الكهرباء، سواء لربط محطات
الرياح والطاقة الشمسية بالشبكات الوطنية أو لتعزيز قدرات التخزين
والتوزيع، كل كيلومتر إضافي من هذه الشبكات يعني أطناناً إضافية من النحاس.
أما السيارات الكهربائية، فهي مثال صارخ
على هذا الاعتماد، إذ تحوي السيارة الواحدة كميات من النحاس تفوق السيارات
التقليدية بأكثر من ثلاثة أضعاف، نتيجة استخدامه في البطاريات، المحركات،
وأنظمة الشحن.
الأسواق تلتقط الإشارة
هذا الطلب المتزايد لم يتأخر في الظهور
على شاشات التداول، فقد ارتفعت أسعار النحاس بأكثر من 30 في المئة خلال
العام الحالي في بورصة لندن للمعادن، في إشارة واضحة إلى أن الأسواق بدأت
تسعر واقعاً جديداً، قوامه نقص المعروض واستمرار الضغوط المستقبلية.
لكن اللافت أن هذه المكاسب السعرية تحققت
رغم حال عدم اليقين الاقتصادي العالمي، مما يعكس قناعة المستثمرين بأن
الطلب على النحاس ليس دورياً أو موقتاً، بل هيكلي وطويل الأمد.
في المقابل، يواجه جانب العرض تحديات
عميقة، فالمناجم القائمة تعاني تراجع جودة الخامات، مما يرفع كلف الاستخراج
ويحد من القدرة على زيادة الإنتاج بسرعة، كذلك أن الاستثمارات في مشاريع
تعدين جديدة تأخرت خلال العقد الماضي، بسبب انخفاض الأسعار حينها وتشدد
المعايير البيئية.
إضافة إلى ذلك تحتاج مشاريع التعدين
الجديدة إلى سنوات طويلة قبل دخولها مرحلة الإنتاج التجاري، في وقت تتصاعد
الأخطار الجيوسياسية في عدد من الدول المنتجة رئيس، مما يزيد حال عدم
اليقين حول استقرار الإمدادات المستقبلية.
وفق التقديرات، تحتاج الشبكات الكهربائية
الخضراء ومراكز البيانات الحديثة إلى ما بين 27 و33 طناً من النحاس لكل
ميغاوات واحد من الطاقة الكهربائية، أي أكثر من ضعف ما تحتاج إليه مراكز
البيانات التقليدية.
وتحذر وكالة الطاقة الدولية من أنه بحلول
عام 2035، فإن المناجم الحالية وتلك المخطط لها لن تلبي سوى 70 في المئة
فحسب من الطلب العالمي على النحاس.
تداعيات اقتصادية أوسع
هذا الخلل بين العرض والطلب لا يقتصر أثره
في سوق المعادن فحسب، بل يمتد إلى الاقتصاد العالمي ككل، فارتفاع أسعار
النحاس يعني زيادة كلف التحول الأخضر، من مشاريع الطاقة المتجددة إلى
البنية التحتية الذكية، وقد يضيف ضغوطاً تضخمية على الصناعات التكنولوجية،
التي باتت تعتمد عليه بصورة أساسية.
هذا الخلل دفع الأسعار إلى مستويات قياسية، إذ تجاوز سعر النحاس 11 ألف دولار للطن، مقارنة بنحو 8500 دولار فحسب قبل عامين.
في المقابل، يفتح هذا الواقع شهية
المستثمرين لإعادة النظر في قطاع التعدين، بعد أعوام من التراجع النسبي،
مما قد يعيد رسم خريطة الاستثمارات العالمية في المعادن الأساسية.
في
النهاية، لم يعد النحاس مجرد معدن صناعي تقليدي، بل تحول إلى مؤشر
استراتيجي يقيس سرعة انتقال العالم نحو اقتصاد الذكاء الاصطناعي والطاقة
النظيفة، ومع اشتداد "جوع النحاس"، يبدو أن المعدن الأحمر مرشح لأن يكون
ذهب العصر التكنولوجي الجديد، لكن بثمن أعلى، وأخطار أكبر، ومعركة إمدادات
مرشحة للتصاعد خلال الأعوام المقبلة.
اندبندنت عربية
المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=128&id=203963