سورية الجديدة: وعود اقتصادية معطلة وخطط بلا تنفيذ
10/12/2025





سيرياستيبس 

بعد عام على التحرير، وجدت الحكومة السورية نفسها عاجزة عن تحويل خطابها الاقتصادي إلى نتائج ملموسة. فرغم الوعود بإصلاحات واسعة وانفراجات سياسية يفترض أن تفتح باب إعادة الإعمار واسترداد الأموال وكبح التضخم، بقيت الملفات الأساسية بلا تقدم، فيما تواصلت موجات الغلاء وبقيت الأحياء المدمرة على حالها. وبينما ترجع الحكومة الإخفاقات إلى العقوبات وإرث الفساد السابق، يؤكد خبراء أن المشكلة بنيوية وتتعلق بغياب القرار الاقتصادي الفعلي، ما يبقي البلاد في مأزق متجذر لا تعالجه التصريحات الرسمية.

إعادة الإعمار وعود بلا تنفيذ
ورغم أن إعادة الإعمار كانت المعيار الأبرز لقياس أداء الحكومة بعد التحرير، بقي الملف بلا تقدم فعلي. فالملايين الذين ينتظرون العودة إلى منازلهم لم يشهدوا سوى تصريحات متكررة عن خطط إسكان وتأهيل للبنى التحتية، من دون أي خطوات تنفيذية على الأرض. والأحياء المدمرة بقيت على حالها، والعائدون اصطدموا بتعقيدات قانونية وإدارية عطلت إعادة البناء. ويقول الخبير في التنمية العمرانية موفق الآغا لـ"العربي الجديد" إن الحكومة تعاملت مع الإعمار عنواناً سياسياً، لا مشروعاً وطنياً، موضحاً أن أي برنامج جدي يحتاج إلى قاعدة بيانات دقيقة، وخطط ملكية واضحة، وتمويل شفاف، وهي عناصر لم تنجز. ويضيف: "المشكلة ليست في غياب المال فقط، المشكلة في غياب القرار الواضح بشأن من يملك حق العودة، ومن يحدد أولويات الإعمار، ومن يحاسب الجهات التي تعرقل التنفيذ"، مشيراً إلى أن جزءاً كبيراً من الإعمار مرتبط بشبكات مصالح، حيث تمنح بعض المشاريع لشركات محددة، بينما تُترك المناطق الأشد تضرراً بلا أي تدخل حقيقي.

ويؤكد عضو نقابة المهندسين، أحمد ملحم، أن ملف إعادة الإعمار يدار حتى الآن بـ"عشوائية واضحة" تعيد إنتاج أخطاء الماضي، إذ تنفذ المشاريع بشكل فردي ومن دون رؤية مركزية أو مرجعية مهنية، رغم حجم الدمار الذي يتطلب وجود جهة سيادية متخصصة تضم مخططين وخبراء اقتصاد. ويشير إلى أن تقديرات البنك الدولي تضع كلفة الإعمار عند 216 مليار دولار، بينها 75 ملياراً للقطاع السكني و82 ملياراً للبنية التحتية، التي شكلت وحدها 48% من إجمالي الخسائر، مع تركز الدمار الأكبر في حلب وريف دمشق.

ويلفت ملحم إلى أن حجم الأضرار لا يتيح أي مجال لاجتهادات فردية، إذ تحتاج بعض المدن إلى استثمارات بمئات الملايين لإصلاح الطرق، التي تراوح خسائرها بين 15 و90 مليون دولار في المدينة الواحدة، إضافة إلى أضرار كبيرة في الموانئ والمطارات والبنية التحتية. ومع عودة أكثر من 885 ألف نازح داخلياً و302 ألف لاجئ خلال عام واحد، يزداد الضغط على البنى التحتية، فيما قد يرتفع العدد إلى 3.5 ملايين في السنوات المقبلة، ما يجعل أي تأخير في التخطيط خطأ استراتيجياً. ويختتم ملحم بالقول إن سورية تحتاج إلى إعادة إعمار مؤسسات قبل الحجارة، في ظل خسائر اقتصادية تتجاوز 530 مليار دولار وواقع يعيش فيه 86% من السكان تحت خط الفقر.

أموال منهوبة بلا استرداد
ومع تباطؤ ملف الإعمار، برز ملف استرداد الأموال المنهوبة بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية لدى السوريين، الذين كانوا ينتظرون إجراءات واضحة لاسترجاع جزء من الثروات التي خرجت من البلاد خلال السنوات الماضية. إلا أن العام الأول لم يشهد أي إعلان مبالغ مستردة أو متورطين تمت محاسبتهم، إذ اكتفت الحكومة بتصريحات عامة عن مكافحة الفساد من دون كشف حجم الأموال أو طبيعة الملفات المفتوحة.
ويقول الباحث الاقتصادي أمجد ونوس لـ"العربي الجديد" إن الحديث عن مكافحة الفساد بقي في إطار الاستعراض الإعلامي، موضحاً أن الدول التي تواجه فساداً واسعاً تبدأ بملفات كبرى تعلن نتائجها لتعزيز الثقة، بينما تجنبت الحكومة السورية الملفات الثقيلة التي يعرفها الجميع. ويشير ونوس إلى أن استرداد الأموال المنهوبة يحتاج إلى قضاء مستقل قادر على محاسبة كبار المتورطين، واتفاقيات تعاون دولي، وشفافية إدارية مطلقة، وهي شروط غير متوفرة اليوم، ما خلق لدى الناس شعوراً بأن الحكومة "ليست جادة في استرجاع ثرواتهم وتتجنب المواجهة مع أصحاب النفوذ".

معضلة التضخم والغلاء
ويمثل التضخم التحدي الأبرز للسكان، إذ واصلت الأسعار ارتفاعها اليومي رغم حديث الحكومة عن استقرار نقدي مرتقب، ما جعل الرواتب عاجزة عن تغطية الاحتياجات الأساسية. وارتفعت أسعار الغذاء والمحروقات والدواء إلى مستويات غير مسبوقة، وسط غياب فعلي للرقابة، وفق ما يؤكده الخبراء. وقال الخبير الاقتصادي إيهاب اسمندر لـ"العربي الجديد" إن التضخم التراكمي بين 2011 و2024 بلغ 16 ألف في المئة، نتيجة تراجع الإنتاج المحلي، وانخفاض الصادرات إلى 6% من مستوياتها قبل الحرب، وتراجع السياحة، واتساع العجز التجاري إلى 35% من الناتج المحلي. كما أسهمت العقوبات، والأزمة المالية في لبنان، وخروج موارد النفط والقمح عن سيطرة الدولة في تفاقم الأزمة، ما رفع تكلفة المعيشة إلى حد لم يعد الحد الأدنى للأجور يغطي سوى خمس سلة الغذاء، مع تجاوز الفقر 90% وخروج أكثر من مليوني طفل من المدارس للعمل، بحسب اسمندر.

وأشار الخبير الاقتصادي عامر شهدا إلى أن الحكومة "رفضت طوال العام الاعتراف بأن الأدوات التي تستخدمها في ضبط التضخم لم تعد صالحة، وأن السياسات التقليدية لم تعد مجدية في اقتصاد يعتمد على الاستيراد ويعاني من ضعف الإنتاج المحلي وتراجع الثقة بالعملة الوطنية". وأضاف: "التضخم لم يكن نتيجة مباشرة للظروف الخارجية فحسب، بل لقرارات داخلية ساهمت في زيادة الكتلة النقدية، وتوسع الإنفاق غير المنتج، وضعف التنسيق بين السياسة المالية والنقدية". وأكد أن عدم الإصلاح الجدي لمؤسسات الدولة، واستمرار العمل بعقلية إدارة الأزمة بدل التنمية، جعل أي محاولة لخفض الأسعار بلا قيمة حقيقية.


فقدان الثقة بالسوق
ظلت الثقة بالسوق أحد أكبر التحديات خلال العام، إذ واصلت الحكومة إرسال رسائل اقتصادية متناقضة بين وعود دعم الإنتاج وقرارات زيادة الضرائب، وبين التسهيل المعلن للاستيراد وفرض قيود جديدة، ما عمق ارتباك المستثمرين والمنتجين. ومع التذبذب المستمر في سعر الصرف وغياب أدوات طمأنة حقيقية، ارتفع منسوب الهلع الاقتصادي، وبات التجار يرفعون الأسعار تحسباً لأي هبوط جديد في قيمة الليرة. ورغم محاولات الحكومة الإيحاء بأن الانفتاح السياسي يمكن أن ينعكس سريعاً على الاقتصاد، بقي الواقع مختلفاً تماماً، فبيئة الاستثمار لم تكن جاهزة (قوانين غير محفزة، ومؤسسات غير فعالة، ومخاوف واسعة من الفساد). ويؤكد الباحث في الاقتصاد السياسي عون الحمصي أن "أي تحسن سياسي لا يمكن أن يعوض غياب إصلاح داخلي يضمن استقراراً قانونياً وإدارياً للمستثمرين.

وألغت الحكومة برامج الدعم الاجتماعي واعتمدت اقتصاد السوق الحر، ما أعاد الأسعار إلى مستوى يعكس العرض والطلب، ورفع كلفة النقل والإنتاج والسلع الأساسية، في ظل تراجع القدرة الشرائية واتساع الفجوة الاجتماعية. ويعكس موقف سكان الأحياء المدمرة، مثل القابون، حالة الإحباط، إذ يشعر الأهالي بأن الحكومة تخلّت عن المناطق الأكثر تضرراً. يقول خالد عطا الله، أحد سكان حي القابون في دمشق، لـ"العربي الجديد": "لم نعد ننتظر شيئاً، الحي بقي كما هو منذ سنوات، لا مشاريع، لا تصليح، لا رؤية واضحة". وبعد عام من الوعود المعطلة، يظهر الدرس الأوضح لهذا العام أن التنمية لا تتحقق بالتصريحات، بل بالإصلاح المؤسسي، والشفافية، وجذب مبادرات قادرة على تغيير الواقع الاقتصادي. وحتى الآن، لا تبدو سورية قريبة من هذا التحول، فيما يترقب المواطنون عاماً جديداً تتقاطع فيه التوقعات مع واقع لا يزال بعيداً عن الوعود.

العربي الجديد 



المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=131&id=203901

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc