الأمن الغذائي في خطر.. هل سيواجه السوريون الجوع مجدداً؟
28/11/2025




سيرياستيبس 
كتب ناظم عيد 

تتوالى ارتفاعات أسعار المنتجات الزراعية السورية بشكل متسارع، لتعود إلى المعدلات العالية "القاهرة للمستهلك" التي درجت عليها لسنوات ما قبل التحرير، ما يعني أن ثمة مشكلة بنيوية في منظومة الأمن الغذائي السوري ينظر إليها خبراء الزراعة والاقتصاد بعين القلق، خصوصاً وأن مجمل الحراك التنفيذي الجديد بدا متجهاً نحو ترميم البنى والبيئة الحاضنة للاقتصاد الريعي بالدرجة الأولى، لتظهر حصة الزراعة كأَساس لمكنة الإنتاج المحلّي الأقل عنايةً بشكل واضح ومثير للهواجس.

هذا في وقت كان يتوقع مراقبون أن يكون قطاع الزراعة "حامل الأمن الغذائي السوري" أولوية متقدمة في سياسات الإدارة الجديدة، وهو ترقّب ملحّ لمبادرات إنقاذ مفترضة بعد أن تراكمت الأخطاء، بل والارتكابات بحق قطاع الريادة الفعلية في الاقتصاد السوري، عبر سياسات يصحّ وصفها بأنها تعسفية، بدت معها الحكومات المتعاقبة على إدارة موارد البلاد كمن يلقي سلاحه الفعّال ويحارب طواحين الهواء بسيوف من خشب. إذ اتبعت الإدارات "الدونكيشوتية" خلال العقدين والنصف الأخيرين سياسات اتسمت بخصلة الانفصال القسري عن الواقع، وكأنها فعلاً تحارب ولا تدعم نقاط القوة والميزات النسبية والمطلقة في الاقتصاد السوري "الزراعة بشقيها والتصنيع الزراعي بمضماره الواسع".

لفحات الليبرالية العمياء

الحقيقة أن أكثر ما كان يستفزنا كإعلاميين ومتابعين للشأن الاقتصادي على مدى سنوات طوال هو تلك الاجتماعات الكبرى التي كانت تصر الإدارة التنفيذية على وصفها بــ"النوعية"، والتطورات المتسارعة كزخ المطر ما بعد العام 2005، في سياق تعظيم نهج ليبرالي أجوف في غير وقته وبيئته تحت مسمّى "اقتصاد السوق الاجتماعي"، تم اختراعه في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم، وثبت حينها أن معظم، إن لم يكن كل مسؤولي الحزب، لم يكن لديهم إلمام ولو بشكل أولي بفحوى مصطلح اقتصاد السوق وملحقه "بدعة الاجتماعي".

ونتيجةً لمجمل تفاصيل ذلك المشهد الكئيب، شهدت سوريا بعد العام 2005 ملامح "قهر معلن" للفلاح كما لكل العاملين والمتعيشين من قطاع الزراعة، انطوت عليه الخطة الخمسية العاشرة، وإن لم تُتح المستجدات المفاجئة في العام 2011 إعلان الخطة الخمسية الحادية عشرة التي كانت عبارة عن "سِفر رأسمالي متوحش"، فإن تطورات عجيبة ومثيرة للدهشة حصلت، كانت كلها تشي بظاهرة الشغف المريب بإلقاء "عباءة النعمة والخصوصية السورية" والوقوع في غواية تقليد الآخر، على الرغم من التباين الصارخ في المعطيات والمفردات واللغة التنموية والبيئة الكلية بين سوريا وذاك الآخر أياً يكن.

فصام وشيزوفرينيا تنفيذية

كم كان مريعاً مع ذروة الأحاديث الساخنة عن الحصار والعقوبات والخناق الاقتصادي، وعلى إيقاع صراخ الفلاحين على امتداد الجغرافيا السورية من نقص الأسمدة والمبيدات والمحروقات، وضجيج البادية من نفوق أعداد هائلة من الماشية جوعاً، أن تشهد تلك القاعة الشهيرة في مبنى رئاسة مجلس الوزراء "قاعة السياسات" المجاورة لمكتب رئيس المجلس اجتماعات عصف ذهني مفتعل هدفها المزعوم توطين مطارح ما يسمى "اقتصاد المعرفة" ومستلزماته من صناعة البرمجيات ومنتجات التكنولوجيا الذكية، ومتى؟ في يوم شتائي بارد يلجأ فيه فقراء عشوائيات كفرسوسة و"حي الإخلاص" على بعد أمتار من "مبنى الرئاسة" إلى الحطب وسكراب المنازل للتدفئة، كما معظم الريف القريب والبعيد، بسبب غياب المازوت، وغياب الوقود يعني شلل الزراعة وتشتت مئات آلاف الأسر الريفية وانعدام أسباب استمرارها.. أي كان عنوان المشهد التنفيذي العام "حدوتة مسلية عنوانها تكنولوجيا على الحطب".

أي في المحصلة لم تُنجز أية مقاربة عملية لاقتصاد المعرفة، لكن استمرت متوالية تراجع نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي السوري بشكل صارخ، وهي متوالية بدأت أولاً بتقهقر يُجزم أصحاب ذهنية المؤامرة بأنه "مُدار ومخطط".

تقهقر مُدار

وبالفعل مريب أن تكون نسبة تراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 35 في المئة في العام 2005 إلى أقل من 17 في المئة في العام 2010 وفق آخر مجموعة إحصائية صدرت في البلاد، واستمر الانهيار الدراماتيكي للقطاع إلى مستويات هزيلة بعد 2011، وبات المواطن السوري يشهد في أسواقه كافة أشكال وأصناف المنتجات الزراعية المستوردة، حتى البطاطا والبصل، وجرى في بعض السنوات توزيع البصل كمقنن غذائي على البطاقة الذكية التي أمست أهم من بطاقة الهوية الشخصية في أعراف الأسر السورية، طبعاً ولا ننسى خبز المواطن والقمح المستورد "حاجة البلاد 3.5 مليون طن لزوم صناعة الخبز تنتج منها أقل من 700 ألف طن بعد أن كانت تنتج 5 ملايين طن".

وإن كان التراجع الأخير يجد من يبرره بالظروف العامة، لكن لا أحد يملك قليلاً من ملكات التحليل يستطيع فصله عن متوالية تقهقر القطاع على خلفيات سياسات سميت "ليبرالية" تعاملت مع قطاع الأمن الغذائي السوري وكلمة السر المفتاحية في التنمية بعقلية التاجر الفاشل الذي ظن نفسه "شاطراً". ويعلم كل متابع أن بداية مسلسل الانحدار كانت مع تحرير أسعار حوامل الطاقة وبعدها الأسمدة والمبيدات، لتظهر النتيجة بعد أول موسم من الإجراء تراجع المساحات المزروعة إلى النصف تقريباً، وقد وجدت الحكومة حينها شماعة التبرير المباشر، وضخمت نتائج موجة الجفاف التي ضربت البلاد والمنطقة بين العامين 2006 و2010 لإظهارها على أنها السبب وليست الإجراءات والقرارات الارتجالية. وهنا علينا أن نذكر ما يشبه الصراع بين تيارين في الحكومة آنذاك: الأول تيار محمد ناجي عطري رئيس مجلس الوزراء، والثاني تيار عبد الله الدردري النائب الاقتصادي "الليبرالي الذي اتهم حينها بمحاباة وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين".

الفساد.. شعرة قصمت

يسرد أحد مسؤولي القطاع الزراعي حادثة أشبه بالنكتة في سياق حديثه عن دور الفساد في تحطيم أهم قطاع تنموي في سوريا، ففي جولة رافق الرجل فيها وزير الزراعة إلى محافظته "محافظة حماه"، وبما أن الوفد الوزاري مر في قرية المسؤول وجد الأخير أن من واجبه دعوة الوزير لاستراحة غداء في منزل والدته التي استثمرت الفرصة واشتكت للوزير من عدم حصول الأسرة على مخصصاتها من مازوت الري المدعوم حكومياً، استنفر الوزير وطلب قوائم التوزيع لتكون النتيجة الموثقة على الورق أن الأسرة استلمت المخصصات، طبعاً السيدة المضيفة نفت واستنكرت، ما استوجب أن يأمر الوزير بمزيد من التدقيق، ليظهر أن من استلم وزور محضر الاستلام هي اللجنة المحلية المعنية بالتوزيع، وهي مؤلفة من ممثلين عن الفرقة الحزبية والجمعية الفلاحية والمسؤول الأمني وآخرين.

أتينا بالحادثة لنختصر طول شرح عن وقائع فساد ومتاجرة وسمسرة واسعة الطيف في توزيع مازوت الري، المازوت نادر حينها، ومثله الأسمدة والأعلاف واللقاحات البيطرية وكل مستلزمات الإنتاج الزراعي المقننة تحت مظلة الدعم المزعوم، وكانت السوق السوداء لها بالمرصاد.

إعادة إنعاش

يطول الشرح حول "خلطة الأسباب" التي أطاحت بمنظومة إنتاج لقمة السوريين، لكن المهم اليوم هو البحث عن مخارج تعيد التوازن إلى قطاع طالما كان يشغل ما يزيد عن 20 في المئة من السوريين بشكل مباشر، إضافة إلى نسبة مقاربة من المشتغلين في فرص غير مباشرة ينتجها على مستوى التجارة والتصنيع الزراعي.. لكن ماذا عن الحلول؟

في سياق رؤية الحل بمنظور استراتيجي لا تفصيلي يسلم الخبير الاقتصادي دكتور فادي عياش بأن الزراعة هي قاطرة التعافي والتنمية في سوريا. ويلفت في حديثه مع "المدن" إلى الموقع الجغرافي والتنوع المناخي اللذين منحا سوريا مزايا تنافسية مؤثرة تتفوق وتمتاز بها، وكانت تحقق الاكتفاء الذاتي الغذائي، وهو أساس التنمية وأُس السيادة. ويؤكد عياش أن القطاع الزراعي السوري كان يساهم بقرابة 35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وتراجع إلى 27 في المئة حتى 2005، إلا أنه تراجع إلى 17 في المئة بسبب السياسات الخاطئة المتراكمة بالإضافة إلى ظروف طبيعية قاسية وظروف الحرب أيضاً.

رؤية من خارج الصندوق

لتعافي القطاع الزراعي واستعادة دوره وزيادة مساهمته التنموية يرى د. عياش أنه لا بد من مراعاة نقطتين جوهريتين: الأولى تتعلق بمدخلات الإنتاج الزراعي، والثانية ترتبط بمخرجاته. ويجزم بأن الزراعات التعاقدية هي شرط لازم للتنمية الزراعية لضمان استقرارها وتخفيف مخاطرها والمحافظة على استدامتها. وهذا المفهوم يتضمن اعتماد التقنيات الزراعية المتطورة على كافة المنظومة الزراعية من اختيار الأنواع الأكثر ملاءمة لمتغيرات المناخ وزيادة الإنتاجية في وحدة المساحة، والري للاستغلال الأمثل لمحدودية الموارد المائية، والحصاد الأفضل، وكذلك في التخطيط للإنتاج الزراعي للاستهلاك المحلي والمعد للتصدير وتنظيم النشاط الزراعي عبر شركات مساهمة زراعية تساعد في تجاوز عقبة صغر الحيازات والتنوع الكبير في وحدة المساحة وتأمين التمويل المناسب والتنميط في الإنتاج.

الدعم على أصوله

يورد الخبير الاقتصادي مقترحاً من شأنه كبح جماح الفساد الذي اعترى القطاع، وهو تحويل الدعم المخصص للإنتاج الزراعي من دعم مدخلات إلى دعم مخرجات، ولا سيما للمحاصيل الاستراتيجية، وكذلك للمحاصيل التصديرية بما يضمن ضبط الهدر إضافة إلى مكافحة الفساد وضمان وصول الدعم لمستحقيه وتحقيق الأهداف التنموية المرجوة منه، ويفترض أن في ذلك تحقيقاً لأبعاد تنموية كلية اقتصادية واجتماعية جغرافية وديموغرافية معروفة ولا حاجة للتفصيل فيها.

تحويل التراب إلى نقود

النقطة الثانية التي يركز عليها الخبير عياش، وهي تتكامل وتتمم الأولى، تتعلق بالصناعات الزراعية التصديرية، فهي برأيه التي تضمن تكامل سلاسل القيمة المضافة وتعظيمها، وهي الأقدر على الاستثمار الأمثل للمزايا النسبية التي تتمتع بها سوريا على مستوى القطاعات الثلاث: الزراعي والصناعي والتجارة الخارجية. مع ملاحظة أن الصناعات الزراعية شقّان: الأول يتعلق بمدخلات واحتياجات الزراعة كالبذار والأسمدة والأدوية والأعلاف والمكننة الزراعية وخطوط الإنتاج الزراعي، مع ما تتطلبه من دراسات وبحوث تخصصية وتقنيات متطورة، والثاني يتعلق بمخرجات الزراعة بشقيها النباتي والحيواني من تصنيع غذائي ونسيج وألبسة وجلديات بالإضافة إلى خدمات الأرزاق الغضة كالفرز والتوضيب والتدريج والتشميع والتبريد، بالإضافة إلى اعتماد مفهوم "العلامة التجارية الجغرافية" في التسويق للمنتجات الزراعية السورية في الأسواق الدولية للاستثمار الأمثل لخصوصية وسمعة المنتج الزراعي السوري.

مفاتيح الانتعاش

في سوريا مقومات تنوع وتكامل زراعي يتكفل بكفاية عدة دول وليس مجرد 20 أو 25 مليون إنسان، لكنها نقاط قوة تحتاج إلى إدارة حاذقة واستثمار أمثل، والأهم النظر بواقعية إلى تراتب الأولويات التنموية التي تتصدرها الزراعة كقطاع حافل بالميزات النسبية والمطلقة، عندها لن يجوع سوري واحد، وسيصفق الجميع للحكومة على التقاطها رأس خيط بداية التعافي الشامل.

المدن



المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=132&id=203782

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc