
سيرياستيبس :
يشكّل قرار الولايات المتحدة تعليق العقوبات المفروضة على سورية بارقة أمل حذرة في مشهد اقتصادي أنهكته سنوات الحرب والعزلة.
ورغم رمزية القرار، يرى اقتصاديون سوريون أن
الخطوة قد تفتح نافذة صغيرة نحو الانفراج، لكنها لا تكفي وحدها لوقف
التدهور أو إطلاق عجلة الإعمار.
وبالتزامن مع اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أول من أمس، مع نظيره السوري أحمد الشرع،
أعلنت وزارة الخزانة الأميركية تعليق فرض العقوبات بموجب قانون قيصر على
سورية جزئياً لمدة 180 يوماً. وأضافت الوزارة أن هذه الخطوة تحل محل إعفاء
سابق صدر في 23 مايو/ أيار.
في هذا السياق، يقول مستشار وزير الاقتصاد السوري مازن ديروان، في تصريح
لـ"العربي الجديد"، إن القرار "خطوة إيجابية للشعب السوري"، لكنه يشير في
الوقت نفسه إلى أن "الطريق نحو إعادة الإعمار والاستقرار ما زال طويلاً
وشائكاً"، ويوضح أن العقوبات الممتدة منذ أكثر من عقد أرهقت حياة السوريين
اليومية وأثّرت في كل تفاصيل معيشتهم، من الطاقة والغذاء إلى الدواء
والتحويلات المالية.
يضيف ديروان أن الاقتصاد السوري بحاجة إلى
معجزة ليتعافى، معتبراً أن أي تحسن ملموس يتطلب "رفعاً كاملاً للعقوبات
المفروضة على البلاد، وخصوصاً تلك المتعلقة بالتحويلات المالية والحصار
الاقتصادي والمقاطعة التي تفرضها الدول الغنية"، مؤكداً أن استمرار القيود
المصرفية يجعل من المستحيل جذب رؤوس الأموال أو تمويل مشاريع كبرى في البنى
التحتية والإنتاج.
ويرى ديروان أن رفع العقوبات أو تعليقها وإن جزئياً قد يعود بمنافع مباشرة،
أولها تحسّن في قطاع الخدمات وبدء معالجة تدريجية لسُلّم الفقر، إلى جانب
خلق فرص عمل جديدة وبدء تدفق الاستثمارات العربية والإقليمية والدولية، بما
في ذلك رؤوس الأموال العائدة من المهاجرين السوريين. ويضيف أن هذه
التطورات "يمكن أن تعيد بعض التوازن إلى سعر الصرف، وتزيد القوة الشرائية،
وتخفّض أسعار المواد الأولية".
العقوبات الأميركية المفروضة على سورية عُرفت باسم "قانون قيصر"، نسبة إلى مصوّر عسكري منشقّ سرّب نحو 55 ألف صورة توثّق انتهاكات ارتُكبت في السجون السورية. وعُرضت هذه الصور أمام الكونغرس الأميركي وأدت إلى غضب دولي واسع تُرجم عام 2019 بإقرار قانون "حماية المدنيين في سورية" المعروف بـ"قيصر"، الذي يُعدّ من أقسى العقوبات المفروضة على البلاد.
استهدفت هذه العقوبات قطاعات الطاقة والبناء
والتمويل، وأدت إلى عزل المصارف السورية عن النظام المالي العالمي، ما
أعاق التحويلات والمعاملات الدولية، وأثّر بشكل مباشر على تدفق السلع
الأساسية والأدوية، الأمر الذي فاقم معاناة المواطنين وعمّق الركود
الاقتصادي.
ورغم أنّ القانون وُضع للضغط على الحكومة السورية من أجل وقف الانتهاكات،
فإنّ تداعياته امتدت إلى المجتمع والاقتصاد ككل، مع تعثر مشاريع إعادة
الإعمار وغياب المستثمرين عن سوق متآكلة أساساً بفعل الحرب والفساد.
من جانبه، يرى الأكاديمي الاقتصادي عمار
اليوسف أن تعليق العقوبات "يمثل نقطة تحوّل رمزية ومهمة في مسار التعافي
الاقتصادي"، معتبراً أنه "يعيد بعض الثقة المفقودة بالاقتصاد السوري ويمهد
لمرحلة جديدة من الانفتاح التدريجي على العالم".
ويقول اليوسف ، إن هذه الخطوة "تعكس إدراكاً
متزايداً لدى المجتمع الدولي بأن العقوبات لم تحقق أهدافها السياسية، بل
ساهمت في إنهاك الاقتصاد السوري والمجتمع معاً"، مشيراً إلى أن التعليق
"يفتح الباب أمام تفعيل المبادرات العربية للاستثمار وإعادة الإعمار،
وخصوصاً في قطاعات الطاقة والنقل والبنية التحتية".
يضيف أن التحركات الإيجابية الأخيرة في العلاقات الإقليمية لسورية، إلى جانب تعليق العقوبات، "تشكل أرضية مناسبة لاستعادة النشاط الاقتصادي تدريجياً"، موضحاً أن "التعافي لن يكون فورياً، لكنه بات ممكناً مع توافر الإرادة والإصلاحات اللازمة لتشجيع القطاع الخاص والمستثمرين العرب". ويؤكد اليوسف أن المرحلة المقبلة تتطلب "التركيز على جذب رؤوس الأموال، وتحسين بيئة الأعمال، وتعزيز الشفافية المالية"، لافتاً إلى أن الاقتصاد السوري يمتلك مقومات قوية من حيث الموارد البشرية والموقع الجغرافي، "لكنّه يحتاج إلى ثقة، والخطوة الأميركية يمكن أن تكون بداية استعادة تلك الثقة إذا أحسنّا استثمارها".
يؤكد الخبير الاقتصادي خالد البرقاوي أن
القرار الأميركي يمثل فسحة قصيرة للتنفس في جسد اقتصادي مرهق، لكنه يحذر من
المبالغة في التفاؤل، موضحاً أن الاقتصاد السوري بحاجة إلى معجزة حقيقية
ليتعافى بعد أكثر من عقد من العزلة والانكماش.
ويقول البرقاوي إن العقوبات الممتدة منذ أكثر من عشر
سنوات أرهقت حياة السوريين اليومية وأدت إلى تآكل القطاعات الإنتاجية
والخدمية، مؤكداً أن "تعليق العقوبات لا يعني رفعها، بل يمنح فترة اختبار
قصيرة ستحدد ما إذا كان المجتمع الدولي مستعداً للتعامل الاقتصادي مع دمشق
من جديد"، ويشير إلى أن الاقتصاد السوري فقد نحو 85% من قيمته خلال سنوات
الحرب، موضحاً أنّ "سورية تحتاج ما بين 20 و25 سنة لتستعيد نصف مستواها ما
قبل 2011، حتى وفق السيناريو الأكثر تفاؤلاً وبمعدل نمو سنوي يبلغ 5%".
ويضيف البرقاوي أن رفع العقوبات أو تعليقها مؤقتاً يمكن أن ينعكس إيجاباً
على بعض المؤشرات، خصوصاً في قطاع الخدمات، إذ قد يساهم في تخفيف مستويات
الفقر، وخلق فرص عمل جديدة، وتحريك بعض الاستثمارات العربية والإقليمية
والدولية، فضلاً عن تحفيز رؤوس أموال السوريين المقيمين في الخارج للعودة
إلى السوق المحلية.
مع ذلك، يلفت إلى أن النظام المصرفي السوري ما زال معزولاً عن النظام المالي العالمي، وأن التحويلات الخارجية ما زالت تمر عبر وسطاء في لبنان والعراق، ما يحدّ من فاعلية أي تخفيف للعقوبات. كما أن التضخم ما زال مرتفعاً والأسعار مستقرة عند مستويات عالية، "لأن أسباب الأزمة بنيوية وتتجاوز مسألة العقوبات إلى ضعف الإنتاج المحلي وغياب الثقة بالسياسات النقدية والمالية". ويختم بالقول إن تعليق "قانون قيصر" قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الانفتاح المشروط، لكنّ التعافي الفعلي للاقتصاد السوري "يتطلب إصلاحات جذرية، وبيئة قانونية شفافة، واستقراراً سياسياً واقتصادياً طويل الأمد، قبل الحديث عن إعادة الإعمار أو تدفق استثمارات واسعة".
شهد الاقتصاد السوري خلال أكثر من عقد من
الحرب والعزلة الاقتصادية تراجعاً حاداً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة
تقدر بنحو 85% مقارنة بمستواه قبل النزاع، حيث انخفض من حوالي 60 مليار
دولار عام 2010 إلى نحو تسعة مليارات دولار في 2025، حسب بيانات رسمية. وقد
تراجعت القدرة الإنتاجية في معظم القطاعات الصناعية والخدمية إلى أقل من
نصف مستوياتها قبل 2011، بينما يعتمد نحو ستة ملايين سوري على التحويلات
الخارجية لتأمين احتياجاتهم الأساسية. وارتفعت معدلات الفقر إلى نحو 70%،
وبلغت نسبة البطالة بين الشباب أكثر من 50%، كما أدّت العقوبات المصرفية
والعزلة المالية إلى زيادة كلفة الاستيراد وارتفاع أسعار المواد الأولية.
مع نهاية عام 2025، بدأ الاقتصاد السوري يترنّح بين إرث الحرب الثقيلة
ومحاولات التعافي البطيئة، إذ لا يتجاوز معدل النمو المتوقع 1% وفق تقديرات
البنك الدولي. وتراجعت القدرة الإنتاجية في معظم القطاعات إلى أقل من نصف
مستوياتها قبل 2011.
ومع بدء تعليق العقوبات الغربية والتقارب
العربي المتنامي، بدأت تظهر بوادر تحسن محدود في بعض القطاعات، مع انخفاض
تدريجي للتضخّم إلى نحو 15%، وتحسن نسبي في توفر المواد الأولية وتخفيض
تكاليف الاستيراد نتيجة فتح المجال أمام التوريد المباشر دون وسطاء، إلى
جانب بدء تدفق استثمارات عربية وإقليمية محدودة، وعودة جزء من رؤوس الأموال
السورية المقيمة في الخارج.
رغم هذا التحسن الجزئي، يظل الاقتصاد هشاً، وأي انتعاش حقيقي يتطلب إصلاحات
هيكلية، استقراراً مصرفياً وسياسياً، ورفعاً كاملاً للعقوبات الدولية،
ليتمكن من الانتقال من مرحلة البقاء إلى مرحلة نمو مستدام وإعادة الإعمار
الفعلي.
يشير عضو غرفة الصناعة بدمشق ياسر السباهي
إلى أن أكثر من 70 ألف صناعي غادروا سورية خلال سنوات الحرب، ما تسبب في
تراجع الإنتاج المحلي بشكل حاد وخلق فجوة في السوق تم ملؤها بالمنتجات
المستوردة بأسعار مرتفعة، أو بسلع محلية تنتج بتكاليف عالية نتيجة نقص
المواد الأولية والطاقة والمشكلات اللوجستية.
ويضيف السباهي أنه مع رفع العقوبات الأميركية وخصوصاً تعليق قانون قيصر
ستبدأ بوادر تحسن ملموسة في القطاع الصناعي، موضحاً أن "تكاليف الاستيراد
تتجه للانخفاض تدريجياً، بالإضافة إلى فتح المجال أمام التوريد المباشر دون
وسطاء، ما يساهم في تخفيف أعباء الصناعيين وتحسين السيولة النقدية لديهم".
مع ذلك، يحذر السباهي من أن التحسن الذي حدث بعد الإطاحة بالنظام السابق،
"لا يزال محدوداً ويحتاج إلى إطار تشريعي واضح ودعم تمويلي مستدام، حتى
يتحول الانخفاض الجزئي في التكاليف إلى أثر فعلي ومستمر في السوق"، مؤكداً
على أهمية توفير قروض استثمارية ميسرة وحوافز للصناعيين المحليين لدعم
إعادة تشغيل المصانع المغلقة وتشجيع الإنتاج المحلي.
بدوره، وصف الصناعي محمد خورشيد، وهو أحد أبرز منتجي المواد الغذائية في
ريف دمشق، السنوات الماضية بأنها "عزلة قسرية"، حيث كانت الأسواق مغلقةً،
والتوريد متعثراً، والتصدير معطلاً. وقال خورشيد : "كنا
ملزمين بالتعامل مع دول محددة، والأسعار كانت مرتفعة بسبب صعوبة الاستيراد.
أما اليوم، فلدينا حرية اختيار الشركاء، والأسواق باتت أكثر مرونة، وهذا
ينعكس إيجاباً على الاقتصاد".
وأضاف أن قرارات الحكومة خلال سنوات العقوبات ساهمت في شح المواد الأولية واحتكارها، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بوتيرة متسارعة، خاصة في قطاع الصناعات الغذائية، وأوضح أن القيود على الاستيراد، وعدم توفر التمويل، وغياب المنافسة، دفعت الصناعيين إلى رفع الأسعار لتغطية التكاليف المتزايدة. وأشار خورشيد إلى أن الحصار لم يكن مجرد سياسة، بل كان واقعاً يومياً أثّر على خطوط الإنتاج والتسويق.
يبقى النظام المصرفي السوري أحد أبرز
التحديات في مسار التعافي الاقتصادي، حيث ظل معزولاً عن النظام المالي
العالمي طوال أكثر من عقد، ما حدّ من قدرة الشركات على الاستيراد، وأثّر
مباشرة على تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات. ويعتبر تعليق العقوبات
الأميركية، ولو لفترة مؤقتة، فرصة لإعادة تفعيل المصارف، وتسهيل التحويلات
المالية، وفتح قنوات التمويل للمستثمرين المحليين والعرب، وهو ما يمثل خطوة
مهمة لإعادة الثقة إلى القطاع المالي وتعزيز السيولة في السوق، فالانفتاح
المالي سيمنح دفعة قوية لخطط إعادة الإعمار التي تستعد البلاد لإطلاقها في
مجالات الطاقة والنقل والإسكان والبنى التحتية، حسب مراقبين. كما سيسمح
بمشاركة الشركات الدولية والإقليمية – وحتى الأميركية – في مشاريع إعادة
الإعمار، ضمن شراكات اقتصادية تحقق المنفعة المتبادلة وتعيد الثقة ببيئة
الاستثمار في سورية.
ويؤكد الخبراء أن أي انتعاش حقيقي للاقتصاد السوري لن يتحقق إلا إذا ترافقت
هذه الإجراءات مع إصلاحات مصرفية وتشريعية شاملة، ودعم حقيقي للقطاع
الصناعي والخدماتي، واستقرار سياسي واقتصادي طويل الأمد.
العربي الجديد
المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=131&id=203582