رأس نفرتيتي... الأيقونة الغائبة فهل تعود إلى مصر؟
04/11/2025




سيرياستيبس : 

بينما اتجهت أنظار العالم إلى المتحف المصري الكبير، بوصفه أكبر مشروع ثقافي في العالم مخصص للحضارة المصرية القديمة، عاد إلى الواجهة ملف رأس نفرتيتي الذي خرج من مصر قبل 112 عاماً، مع تصاعد مطالبات بين الأثريين بضرورة استعادته ليكون ضمن معروضات المتحف الجديد.

رأس نفرتيتي، الذي عثر عليه عام 1912 في تل العمارنة على يد البعثة الألمانية برئاسة لودفيغ بورشاردت، خرج من مصر في سبتمبر (أيلول) 1913، ليستقر في متحف برلين حتى اليوم، وبينما لا يزال الخلاف قائماً بين القاهرة وبرلين حول مشروعية خروجه، إذ تؤكد مصر أنه غادر البلاد بطرق غير قانونية، تتمسّك مؤسسة التراث الثقافي البروسي (مؤسسة حكومية ألمانية تعنى بالتراث الألماني) بأن نقله جرى وفق نظام تقسيم المكتشفات الأثرية الذي كان معمولاً به آنذاك.

ومع افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي يتسع لأكثر من 100 ألف قطعة أثرية، يرى أثريون أن اللحظة مناسبة لإعادة طرح الملف على المستوى الرسمي، معتبرين أن غياب رأس نفرتيتي عن قاعات العرض غير مقبول.

يقول أستاذ الآثار والدراسات المتحفية بجامعة دمياط عضو المجلس الدولي للمتاحف محمد جمال راشد لـ"اندبندنت عربية"، إن لدى مصر أدلة تثبت أن رأس نفرتيتي خرج بطريقة غير قانونية، إلا أن القاهرة "لم تتقدم" حتى الآن بطلب رسمي لاستعادته، مشيراً إلى أن ما يُثار حول هذه المطالبات يندرج في إطار الاستهلاك الإعلامي أو المبادرات الفردية للاستعراض، من دون وجود أي تحرك فعلي.

جدل حول قانونية خروجه
ويتزايد الجدل حول طبيعة الطلبات المصرية لاستعادة رأس نفرتيتي، فيما تشير وسائل إعلام محلية إلى أن مصر، بعد الحرب العالمية الثانية، تقدمت بطلب رسمي إلى مجلس الرقابة على الحلفاء المسؤول آنذاك عن الممتلكات الفنية في ألمانيا.

وفي سبتمبر من العام الماضي، قال عالم الآثار المصري زاهي حواس في تصريحات لـ"الشرق الأوسط" إنه خلال توليه رئاسة المجلس الأعلى للآثار أرسل خطاباً إلى الحكومة الألمانية يطالب فيه باستعادة رأس نفرتيتي، إلا أن الرد جاء بطلب أن يوقع الوزير على الخطاب.

وقال خالد العناني، حين كان وزيراً للسياحة والآثار، الذي تولى لاحقاً منصب المدير العام لمنظمة "اليونيسكو"، في تصريحات متلفزة إن ألمانيا تتمسك برأس نفرتيتي، مؤكداً تمسك مصر بعودته مرة أخرى إلى بلاده.

في حين، أورد تقرير "دويتشه فيله" نشر في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي أن مؤسسة التراث الثقافي البروسي قالت إن تمثال نفرتيتي النصفي منح للجانب الألماني بطريقة قانونية ضمن نظام تقسيم الآثار المعتاد آنذاك بين بعثات التنقيب، وأشارت المؤسسة إلى أنه لا يوجد أي طلب رسمي من الحكومة المصرية لاستعادة التمثال، وأضافت أن متاحف برلين تتعاون منذ عقود مع متاحف الدول التي تنتمي إليها مقتنياتها الأصلية، مؤكدة أن المؤسسة تحافظ على تواصل مستمر مع وزارة السياحة والآثار المصرية.

وذكرت الباحثة في علم المصريات مونيكا حنا، في مقال علمي نُشر عام 2023 في المجلة الدولية للملكية الثقافية بجامعة كامبريدج، أن تمثال نفرتيتي النصفي يمثل تحولاً في نظرة الغرب إلى التراث المصري، بعدما بدأ يقدّم بوصفه الوريث الشرعي لمصر القديمة من خلال منظومة معرفية تهيمن على عرض التراث داخل المتاحف الغربية، موضحة أن التمثال يكشف تداخل السياسة بالتراث، واستغلال الرموز الأثرية لترسيخ الهيمنة الثقافية، مشيرة إلى أن نفرتيتي من أبرز قضايا نقاش إزالة الاستعمار في علم الآثار.

وقالت إن عالم الآثار الألماني لودفيغ بورخارت أخفى حقيقة التمثال، الذي عثر عليه عام 1912 في ورشة النحات تحتمس بتل العمارنة، وسجّله باسم "أميرة ملكية مطلية" على رغم علمه بهويته، ووصفت ذلك بأنه "خرق متعمد" للقوانين المصرية التي كانت تمنح الدولة حق الاحتفاظ بالقطع الفريدة، واعتبرته احتيالاً موثقاً في مراسلات استعادة التمثال عام 1946.

وأضافت حنا أن رفض ألمانيا إعادة التمثال لا يرتبط بالشرعية القانونية، بل بالخوف من سابقة تلزمها إعادة آلاف القطع المنقولة خلال الحقبة الاستعمارية، معتبرة استمرار عرضه في برلين تمسكاً بالسيطرة الرمزية على الحضارات الأخرى، ودعت إلى أن تكون إعادته بداية لاستعادة المصريين حقهم في إنتاج المعرفة عن تاريخهم.

 
وتابعت إن الوثائق المحفوظة في دار الوثائق القومية المصرية تظهر تسلسلاً من المراسلات الرسمية بين القاهرة والبعثات الألمانية في شأن التمثال، بدأت برسالة مؤرخة في الـ10 من مايو (أيار) 1927 كتبها رئيس المفوضية الملكية المصرية في برلين، سيف الله يسري باشا، إلى وزارة الخارجية في القاهرة، تلتها رسالة أخرى في الـ29 من نوفمبر )تشرين الثاني( 1929 من حسن نشأت باشا الذي خلفه في المنصب، وأوضحت أن الرسالتين تكشفان سياسة غير معلنة تقضي بأن تظل المفاوضات في نطاق المتخصصين فقط، خوفاً من أن تتحول القضية إلى مسألة سياسية.

وأضافت أن عام 1930 شهد بدء مفاوضات رسمية بين مدير مصلحة الآثار المصرية بيير لاكو وهاينريش شافر من متحف برلين، حين اقترح الجانب المصري مبادلة التمثال بقطعتين أثريتين إحداهما من الدولة القديمة والأخرى تنتمي للدولة الحديثة، لكن الحكومة البروسية رفضت العرض في الـ10 من يونيو )حزيران( 1930.

وتابعت أن المفاوضات استؤنفت عام 1933، وتمكن الجانب المصري من إقناع الحكومة البروسية بالموافقة على إعادة التمثال لمناسبة عيد ميلاد الملك فؤاد الأول، غير أن القرار أُلغي بعد تدخل أدولف هتلر شخصياً، الذي وفق وثيقة من قصر عابدين بتاريخ الـ10 من أكتوبر )تشرينالأول( 1933 عبّر عن إعجابه الشديد بنفرتيتي ورفض رحيله عن برلين.


وأشارت إلى أن الجهود المصرية تجددت بعد الحرب العالمية الثانية، إذ وجهت اللجنة الأثرية التابعة لوزارة المعارف خطاباً عام 1946 إلى رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا تطلب فيه استعادة التمثال، وأن النقراشي أرسل في الـ10 من فبراير )شباط( 1946 رسالة رسمية إلى وزارة الخارجية الأميركية يؤكد فيها أن زوال حكم هتلر أزال العائق الأخير أمام إعادة التمثال إلى موطنه، لكن سلطة الحلفاء في ألمانيا ردت في الثامن من مارس (آذار) 1947 بأن اختصاصها يقتصر على الأعمال المنهوبة خلال الحرب فقط.

ويوضح عضو المجلس الدولي للمتاحف محمد جمال راشد أن نقطة القوة التي تملكها مصر تتمثل في إثبات التلاعب الذي صاحب عملية القسمة في أثناء اكتشاف الرأس، إذ كان معمولاً بأن توزع المكتشفات بين البعثة الأجنبية والجانب المصري، مع أولوية بقاء القطع الفريدة داخل مصر.

وبحسب روايته، فإن رأس نفرتيتي خرج عبر إخفائه أو تصويره على أنه قطعة عادية، وهي النقطة الجوهرية التي يمكن البناء عليها قانونياً للمطالبة باسترداده، مؤكداً أن مثل هذه القضايا لا تسقط بالتقادم، لكننا بحاجة إلى خطة حكومية واضحة.

ويعتمد علماء الآثار في مصر على نص المادة 13 (ب) من اتفاقية "اليونسكو" لعام 1970 الخاصة بحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة، على التزام الدول الأطراف احترام حق الدول الأخرى في استرداد ممتلكاتها الثقافية التي نُقلت خارج أراضيها بشكل غير قانوني، والعمل على تسهيل الإجراءات اللازمة لإعادتها.

دعوات بالضغط الرسمي
وفي ما يتعلق بمخاوف الأوساط المهتمة بالتراث في ألمانيا من عودة الرأس إلى مصر، قال راشد إن مصر أثبتت قدرتها على الحفاظ على القطع الأثرية، مستشهداً بمثال مجموعة توت عنخ آمون التي حُفظت بقيمتها الكاملة، مؤكداً أن مصر تمتلك الكفاءة والإمكانات اللازمة لعرض القطع الأثرية بالشكل اللائق، وأن المشكلات الفنية موجودة في جميع متاحف العالم.

وشدد راشد على أحقية مصر في استعادة رأس نفرتيتي، لكنه ربط الأمر بضرورة التحرك الرسمي، مشيراً إلى أن الحديث عن استرداده يتجدد مع كل حدث ثقافي، وذكر بأن دولاً أفريقية مثل نيجيريا والسنغال نجحت في استعادة قطع أثرية من متاحف أوروبية.

وأضاف أن نقاشاته مع عدد من الأثريين الألمان تظهر تمسكهم الشديد بالقطعة ورفضهم فكرة التخلي عنها، معتبرين أنها خرجت وفق اتفاق القسمة المتبع آنذاك، وقال إن موقفهم مفهوم في ظل دفاعهم عن مقتنياتهم، لافتاً إلى أن هناك مئات الآلاف من القطع المصرية الموجودة في الخارج، وتسعة متاحف أجنبية تحمل اسم المتحف المصري الكبير 

يقول عضو اتحاد الأثريين المصريين عماد مهدي إن المتحف الكبير يجب أن يستخدم لإرسال رسائل واضحة في شأن رأس نفرتيتي، مثل تخصيص فاترينة فارغة له داخل المتحف مع عرض توثيقي يوضح كيفية خروجه من مصر، لتكون رسالة للعالم ومحاولة للضغط لاستعادته.

أوضح مهدي لـ"اندبندنت عربية" أن الأثريين المصريين قادرون على حماية رأس نفرتيتي، وأن ما يروج حول المخاوف من عدم قدرتنا على الحفاظ عليه غير منطقي، "في الماضي كان الاعتماد كبيراً على الأجانب الذين سيطروا على علم المصريات، لكن الوضع تغير الآن، لدينا معامل حديثة وتقنيات متطورة خصوصاً في المتحف المصري الكبير".

واعتبر مهدي أن الرأس خرج بخديعة بعدما جرى التعتيم على أهميته، مؤكداً أنه من أبرز القطع التي يجب أن تكون ضمن العرض المتحفي للمتحف الكبير، نظراً إلى قيمته الفريدة ضمن أعظم القطع الأثرية في العالم.

 وشدد مهدي على ضرورة اتخاذ خطوات أكثر حسماً، مثل استغلال اهتمام الألمان بالحفائر ووقف البعثات الألمانية في مصر كوسيلة ضغط، مضيفاً أن افتتاح المتحف المصري الكبير يمثل فرصة للتحرك الجاد في ملف استرداد الآثار المصرية من الخارج.

الاستفادة من المتحف الكبير
يقول العميد السابق لكلية الآثار بجامعة القاهرة محمد حمزة الحداد إن ألمانيا متمسكة برأس نفرتيتي، مضيفاً أنه عندما زار المتحف الذي يعرض فيه ببرلين لاحظ وجود حراسة مشددة حوله، حتى أثناء التصوير كانت الصور تلتقط من زاوية محددة وليست مباشرة، مؤكداً أن المتحف المصري الكبير يضم أكثر من 5 آلاف قطعة من مجموعة توت عنخ آمون، وانضمام رأس نفرتيتي إلى هذه المقتنيات سيشكل إضافة استثنائية، لأنه يمثل رمزاً فنياً وتاريخياً فريداً.

ويعد تمثال نفرتيتي النصفي، الذي يبلغ ارتفاعه نحو 50 سنتيمتراً، من أدق الأعمال النحتية في مصر القديمة، ويظهر ملامح الملكة بتفاصيل دقيقة تعكس مهارة الفنان المصري القديم.

واعتبر أن استعادة رأس نفرتيتي ستحدث صدى عالمياً مماثلاً لما أحدثته كنوز توت عنخ آمون، فهي تعد أجمل عمل فني من ناحية الدقة والنحت والإبداع، وتحفة لا مثيل لها، معتقداً أن افتتاح المتحف المصري الكبير يمثل المرحلة الأولى في مسار طويل، يجب أن تتبعها مرحلة ثانية تركز على استعادة الآثار المصرية المهربة، لأنها تكمل صورة الحضارة المصرية عبر عصورها.

ويضم المتحف بين أروقته مقتنيات "توت عنخ آمون" وقناعه المصنوع من الذهب، إلى جانب مركبي الملك خوفو اللذين نقلا من موقعهما الأصلي إلى المتحف، وتمثال رمسيس الثاني في بهو المدخل، والمسلة المعلقة عند ساحة الدخول، وعمود مرنبتاح، وتضم القطع الثقيلة على الدرج العظيم آثاراً من عصر الدولة القديمة، مروراً بالدولة الوسطى والدولة الحديثة وحتى العصر اليوناني الروماني.

كذلك يضم المتحف 12 قاعة عرض رئيسة صممت لتقديم تجربة متكاملة تجمع بين الأثر والمعرفة والترفيه، يبدأ من المدخل الرئيس الذي يحتضن تمثال رمسيس الثاني وخمس قطع ضخمة، ويقود إلى الدرج العظيم بارتفاع يعادل ستة طوابق ويضم 87 قطعة أثرية، وتضم قاعة "توت عنخ آمون" أكثر من 5 آلاف قطعة من كنوزه.

ودعا حمزة الدولة إلى التحرك الدبلوماسي المكثف من خلال وزارة الخارجية والمكاتب والملاحق الثقافية والسياحية بالخارج، وبدعم من القيادة السياسية، للمطالبة رسمياً باستعادة رأس نفرتيتي، كما فعلت مصر سابقاً عندما حشدت جهودها لدعم العناني للفوز في انتخابات "اليونسكو".

وتواصلت "اندبندنت عربية" مع مدير عام إدارة الآثار المستردة بوزارة السياحة والآثار شعبان عبدالجواد، وسألته عن الجهود المبذولة لاستعادة رأس نفرتيتي، إلا أنه رفض التعليق.

اندبندنت عربية 



المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=145&id=203499

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc