حذف الأصفار من الليرة السورية: إصلاح نقدي أم خطوة تجميلية؟
أساتذة اقتصاد : لا نثق بجدوى حذف الأصفار .. والتضخم سيخرج من الباب ويدخل من النافذة






إعادة هيكلة العملة الوطنية عبر حذف الأصفار تتحول إلى محور نقاش اقتصادي وسياسي في سوريا

الانتقادات وجهت مباشرة إلى قرار "المركزي السوري" ممن وصفوه بـ"غير المجدي" في ما لو اعتمد كحل نقدي

سيرياستيبس :

لا تزال قضية حذف الأصفار من العملة السورية مثار جدل بين الأوساط الاقتصادية والأكاديمية وحتى رجال الأعمال في سوريا، معتبرين أن القرار لا يبدو صائباً، وكان يجب التوجه نحو تبديل العملة بطبع فئات نقدية أعلى.

وأكد أساتذة في كلية الاقتصاد بجامعة "دمشق" أن الوضع النقدي في سوريا معقد، وأي إصلاح اقتصادي حقيقي لا بد أن يبدأ من تحقيق درجة متقدمة من الاستقرار النقدي عبر خفض التضخم ومعالجة العجز الكبير في ميزان المدفوعات والميزان التجاري ورفع الإنتاج والصادرات وصولاً إلى تحسين القوة الشرائية، وهذا كله مرتبط بتنفيذ حزمة إصلاحات متكاملة، مؤكدين أن الإصلاح النقدي ليس رفاهية اقتصادية بل هو شرط وجودي لإنقاذ ما بقي من قدرة لدى المجتمع السوري لمواجهة الغلاء والتضخم المفرط وضمان حد أدنى من العيش الكريم، فمن دون استعادة الثقة بالعملة المحلية، ومن دون سياسات نقدية ومالية منسقة، سيبقى الاقتصاد السوري رهينة دوامة التضخم والركود وانتظار ما يشبه المعجزة.

وفي ندوة حوارية أقامتها كلية الاقتصاد بجامعة "دمشق" بالتعاون مع غرفة تجارة دمشق، بعنوان "استراتيجيات الإصلاح النقدي والاستقرار المالي في سوريا" وجهت انتقادات مباشرة إلى قرار "المركزي السوري" حذف الأصفار من العملة، ووصفوه بـ"غير المجدي" فيما لو اعتمد كحل نقدي، مؤكدين أن حذف الأصفار سيخرج التضخم من الباب لكنه سيدخل سريعاً من النافذة، مطالبين "المركزي السوري" بضرورة تقديم وشرح المبررات التي اعتمد عليها عندما اتخذ قراره بحذف الأصفار بينما كان يجب أن يكون التبديل في إضافة فئات جديدة أعلى كما فعل لبنان.

وبدأت أزمة نقص السيولة في سوريا وفقاً لحاكم مصرف سوريا المركزي في الفترة التي تلت سقوط النظام السوري السابق ميساء صابرين، عام 2020 تزامناً مع تداعيات جائحة كورونا والأزمة المصرفية في لبنان وتطبيق "قانون قيصر" وصولاً إلى اعتماد منصة تمويل المستوردات التي أدت إلى تدهور الاقتصاد الوطني واستنزافه.

شكوك في خفض معدلات التضخم

الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة "دمشق" عبدالرزاق حساني، أوضح خلال الندوة، أن هناك ضبابية تحيط بموضوع حذف الأصفار من العملة السورية و"الدولرة"، حتى لدى صانع القرار في المصرف المركزي، ولا يوجد أي تفصيل أو توضيح من حاكم المصرف حول هذا الموضوع. وأكد أن "الدولرة" وحذف الأصفار قضيتان معقدتان، مشيراً إلى أن "الدولرة" تنقسم إلى نوعين: رسمية عبر اعتماد الدولار كعملة رسمية من المصرف المركزي، وغير رسمية كما هي الحال في سوريا، إذ يتداول ثلاث عملات أو أكثر، هي الدولار الأميركي والليرة التركية إلى جانب الليرة السورية، وهناك عملات خليجية إلى حد ما. ورأى أن الهدف من حذف الأصفار هو لغايات تشغيلية وتسهيل العمليات المحاسبية، ومن الأهداف تحسين الصورة الذهنية عند المواطن، مضيفاً "أستشف هدفاً رئيساً من إطلاق العملة الجديدة هو إطلاق هوية بصرية جديدة للعملة، لأن الفئات النقدية تحمل رموز النظام البائد، والشعب لديه في خلفيته الفكرية أن هذه الفئات مرتبطة بتدهور مستوى معيشته وهذا يتطلب تغييراً". وأكد أنه لا يثق بأن استبدال العملة سيؤدي إلى خفض معدلات التضخم، مشيراً إلى أن هذه العملية تنطوي على كلفة كبيرة، ولا تؤثر في جوهر الاقتصاد، إذ إن التضخم مرتبط بالأداء الاقتصادي العام، بخاصة القدرة الإنتاجية للقطاع الوطني. وشدد على أن حذف الأصفار من دون برنامج إصلاح شامل لن يحقق نتائج مستدامة، بل سيؤدي إلى عودة التضخم مجدداً.

ودعا المتحدث إلى تعزيز الثقة بالعملة المحلية عبر توفير السيولة بالليرة السورية، والابتعاد عن سياسة حبس السيولة التي تتبعها الحكومة حالياً، وضرورة تنظيم سياسة التسعير بدلاً من فرض رقابة مشددة على الأسواق، من خلال إلزام التجار بتسعير المنتجات السورية بالليرة المحلية، والحد من المضاربات بالعملة الأجنبية عبر استقطاب الحوالات من خلال القنوات المصرفية المرخصة، مشيراً إلى وجود صرافين غير مرخصين حتى أمام المصرف المركزي، ما يستدعي تجديد الرقابة على شركات الصرافة والطيران ومحال الصاغة التي تحتفظ بمبالغ ضخمة بالدولار، وهو ما يعكس خللاً في إدارة مراكز السيولة من المصرف المركزي. وشدد حساني على ضرورة تصميم وتنفيذ برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي يعزز الانضباط المالي وكفاءة إدارة المالية العامة التي تستهدف معالجة العجز في الموازنة واستدامة الدين العام. وأوضح أن المشكلة ليست في حجم الدين، بل في مدى انسجامه مع النمو الاقتصادي، وقدرة الاقتصاد الوطني على تحمل تبعاته، وطالب باستقلالية السلطة النقدية، بحيث لا يجبر المصرف المركزي على تمويل العجز أو شراء سندات الدين العام، مستشهداً بتجربة لبنان كمثال على أخطار غياب الاستقلالية، واختتم حديثه بتأكيد أهمية تنفيذ إصلاحات مؤسساتية تشمل تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد.

حذف الأصفار ليس وصفة البنك الدولي

عميد كلية الاقتصاد بجامعة "دمشق" علي كنعان أكد أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار النقدي إلا مع توفر الاستقرار المصرفي، والاستقرار المالي إلى جانب الاستقرار الصناعي والاستثماري والتجاري. وأشار إلى أن جميع المتغيرات اليوم بحال مضطربة، بالتالي فإن حذف صفرين من العملة يحتاج إلى 20 مليار دولار احتياط لتمويل مرحلة ما بعد حذف الصفرين، أي يجب أن يكون هناك قدرة على تمويل المستوردين لمدة 27 شهراً من دون الحاجة إلى دولار جديد واحد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، تابع كنعان، "هل لدينا في سوريا هذه الاحتياطات؟ في الحقيقة إذا كان لدينا 20 مليار دولار سننجح في تحقيق الإصلاح النقدي، لكن إذا لم يكن لدينا سيفشل الإصلاح النقدي وسينهار ونعود إلى موجة تضخمية جديدة وانهيارات في الأسعار". ونصح عميد كلية الاقتصاد بتبديل العملة عبر اللجوء إلى طبع فئات نقدية أعلى 10 آلاف و25 ألفاً و50 ألفاً وحتى 100 ألف ليرة، عندها يمكن لـ"المركزي" أن يسيطر على الكتلة النقدية ويستطيع أن يفعل ما يريد.

أضاف نحن مع التبديل وليس مع حذف الأصفار لأن الوضع الاقتصادي في حاجة إلى فئات نقدية جديدة لكن "المركزي" ذهب إلى الحال المعاكسة، مؤكداً أنه لن يستطيع أن يسيطر على الوضع النقدي من خلال طرح فئات أدنى، وعليه أن يشرح مبررات خياره حذف العملة للرأي العام. كنعان، في رده على سؤالنا، أكد أن خيار "المركزي" بحذف الأصفار ليس وصفة من البنك الدولي، لأن البنك الدولي سيعطيه وصفة تمويل المستوردات لمدة 27 شهراً، مستبعداً أن يكون هناك احتياط متوافر لدى "المركزي" بقيمة 20 مليار دولار.

لا توجد نظرية نقدية تبرر حذف الأصفار

الأستاذ في اقتصادات التنمية عدنان سليمان سأل في مداخلة له خلال الندوة، فيما إذا كانت هناك نظرية نقدية تستطيع أن تبرر وتضمن الإجراء الذي لجأ إليه "المركزي السوري" بحذف الأصفار، وقال "منذ الحرب العالمية الثانية لا يوجد تجربة إصلاح نقدي تشابه ما ذهب إليه مصرف سوريا المركزي"، لافتاً إلى أن لبنان أعلن قبل أيام قليلة عن قرار بطباعة فئات نقدية جديدة أعلى "500 ألف ومليون و5 ملايين"، أي أصبح لديه ستة أصفار على رغم كل الهشاشة الاقتصادية التي يعانيها، لكن إذا حذف بعد عام ثلاثة أو أربعة أصفار لن يحدث لديه صدمة في الاقتصاد لأنه لديه 11 مليار دولار احتياط نقدي و30 مليار دولار احتياط من الذهب، أما في سوريا فإن أعلى فئة نقدية هي 5 آلاف ليرة تساوي حالياً "0.44" دولار، وإذا حذفنا صفرين ستصبح 50 ليرة، وإذا سألت أي متبحر في الاقتصاد عن المؤشرات الاقتصادية الكلية الحالية في سوريا سيقول لك: نمو اقتصادي واحد في المئة أو أقل، وعجز موازنة مخيف وعجز كبير في الميزان التجاري وآخر في ميزان المدفوعات واحتياط نقدي لا يتجاوز 100 إلى 150 مليون دولار ومعدل تضخم كبير، وفق قوله.

في حين كانت الـ50 ليرة في الثمانينيات والسبعينيات من القرن الماضي أعلى فئة نقدية في ظل معدل نمو ستة إلى سبعة في المئة واحتياط نقدي 18 مليار دولار وكان ميزان المدفوعات والميزان التجاري والصادرات إيجابية وحتى عجز الموازنة كان في حده الأدنى. وتساءل "مع كل تلك المؤشرات السالبة الحالية، هل هناك من يعتقد بوجود نظرية نقدية تعالج هذا الواقع إلا حذف الأصفار، هل هناك من يستطيع أن يعتقد أن الخروج من انهيار الاقتصاد بإجراء نقدي، بمعنى هل ستكون المؤشرات الاقتصادية بعد عام من حذف الأصفار إيجابية، بالتالي هل الإجراء النقدي هو رافعة للإصلاح الاقتصادي أم العكس هو الصحيح؟".

فاقد في العرض النقدي في سوريا

إلى ذلك كشف أستاذ السياسات النقدية أكرم حوراني، أن التقديرات تشير إلى أن العرض النقدي في سوريا يراوح ما بين 70 تريليون ليرة (6.194 مليار دولار) و100 تريليون ليرة (8.849 مليار دولار)، يوجد منها 20 تريليون ليرة (1.769 مليار دولار) في المصارف وفقاً لمسؤولين في حكومة النظام السابق في حين يوجد لدى الجمهور مبالغ تراوح ما بين 20 (1.769 مليار دولار) و30 تريليون ليرة (2.654 مليار دولار)، وهذا يعني أن هناك فاقداً في العرض النقدي أكثر من 40 تريليون ليرة (3.539 مليار دولار) وهو إما موجود في العراق أو لدى "حزب الله" أو "قسد" أو عند الفاسدين، ومن ثم فإن خطوة باتجاه حذف الأصفار ستكون طريقة لتقليص العرض النقدي، مشيراً إلى أن "المركزي السوري" لم يستشر أحداً من أصحاب الخبرات والقرار عندما اتخذ قراره.

إلى ذلك أكد الأستاذ في الاقتصاد الصناعي غسان إبراهيم، أن مجموع الإصلاح الضريبي والنقدي والاستثماري لن يفضي إلى تحقيق الإصلاح الاقتصادي إذا لم يكن هناك إنتاج وفائض، مؤكداً أنه قبل حذف الأصفار يجب فهم أن أي مشكلة اقتصادية لن تحل إذا لم يكن هناك عمل وإنتاج وفي كل القطاعات زراعة وصناعة. وقال، "علينا أن نفعل أي شيء من أجل أن ينتج المواطن ويعيش بكرامة، وعلينا أن نحول اقتصاد الظل سريعاً إلى منظومة الاقتصاد الرسمي، فمن المهم في هذه المرحلة أن تمتلئ البلد بالإنتاج عندها فقط سنستطيع الذهاب إلى الحلول الأخرى بما فيها تبديل العملة".

خطة استبدال العملة على 5 أعوام

كان حاكم مصرف سوريا المركزي، عبدالقادر الحصرية، أعلن نهاية أغسطس (آب) الماضي، أن سوريا ستشهد للمرة الأولى منذ سبعة عقود إطلاق عملة جديدة بعد قرار حذف صفرين من الليرة، في خطوة وصفها بأنها "شكلية" تهدف إلى تبسيط النظام النقدي وتسهيل التعاملات اليومية. وأوضح الحصرية أن عملية الاستبدال ستجري تدريجاً، بدءاً بالطرح المتوازي للعملتين القديمة والجديدة، وصولاً إلى الاستبدال الكامل خلال خمسة أعوام عبر المصرف المركزي، مشيراً إلى أن حجم النقد المتداول حالياً يبلغ 14 مليار قطعة، مما يستدعي خطة دقيقة لتنظيم التحويل. وأكد أن المحال التجارية ستكون ملزمة خلال المرحلة الأولى بعرض الأسعار بالعملتين معاً، على أن ترافق العملية حملات إعلامية توعوية لشرح شكل العملة الجديدة وآليات الاستبدال، مشيراً إلى أن السوريين سيشهدون "تحرراً مالياً يوازي التحرر السياسي الذي تحقق في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024".

اندبندنت عربية



المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=126&id=203180

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc