الأثاث المنزلي بين حلم الشباب في حلب وكابوس الغلاء
20/08/2025
سيرياستيبس
لم يعد شراء الأثاث المنزلي اليوم مجرد خطوة طبيعية في حياة الأسرة الحلبية، بل تحول إلى عبء ثقيل وكابوس يقف حائلاً أمام استقرار آلاف الشباب المقبلين على الزواج، أو حتى أمام العائلات التي تفكر في تجديد مقتنيات منازلها، فمع تفاقم الأزمة المعيشية وارتفاع معدلات التضخم، دخل الأثاث، مثل غيره من السلع، في دوامة الأسعار الملتهبة التي باتت تفوق قدرة المواطن على التحمل، ليجد نفسه أمام معادلة صعبة، إما الاستدانة وإما التوجه نحو المستعمل أو الاكتفاء بالضروريات فقط.
من ضرورة إلى رفاهية
منذ عدة أعوام، بدأت أسعار الأثاث المنزلي ترتفع تدريجياً، لكنها خلال العام الماضي والحالي، وصلت إلى مستويات وصفت بـ”الجنونية”، وفق ما يؤكد مواطنون وتجار على حد سواء، فاقتناء غرفة نوم بسيطة أو فرش صالون متواضع، صار يحتاج إلى ملايين الليرات، ما جعل الكثيرين يضعون شراء الأثاث في خانة “الكماليات” على الرغم من أنه من الأساسيات التي لا غنى عنها في أي منزل.
يقول هاشم. م، (30 عاماً) من سكان حي الأشرفية، وهو شاب مقبل على الزواج: منذ سنوات، وأنا أحاول ادخار مبلغ لتأثيث منزلي، لكن الأسعار في تصاعد مستمر، إذا أردت شراء جميع المستلزمات الجديدة فسأحتاج إلى ما لا يقل عن عشرين مليون ليرة، وهذا مبلغ لا يمكن أن أجمعه من عملي، وخاصة أنني مضطر أيضاً لاستئجار منزل بسعر مرتفع، بعد أن صار شراء منزل حلماً بعيد المنال.
بحسب أصحاب صالات المفروشات، فإن تكلفة أثاث أي منزل لا تقل اليوم عن عشرة ملايين ليرة كحد أدنى، وتشمل غرفة نوم متوسطة الجودة وصالون متواضع وبعض الأساسيات، وتبدأ الأسعار من نحو مليوني ليرة للقطع الرديئة أو المستعملة جزئيا، وصولاً إلى أكثر من عشرة ملايين للأنواع ذات الجودة المقبولة.
يشرح أبو أحمد- صاحب ورشة تصنيع أثاث في حي صلاح الدين، أن سبب ارتفاع الأسعار يعود إلى عدة عوامل أهمها، المواد الأولية التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير، فالخشب المستورد بات سعره خيالياً، أما المحلي فهو محدود الجودة، عدا عن غلاء أسعار الإسفنج، الأقمشة، والدهانات التي تضاعفت مرات عديدة خلال السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى أجور العمال التي ارتفعت مع غلاء المعيشة.
بين الواقع والمبالغة
إذا كان الأثاث الخشبي يشكل العبء الأكبر، فإن الأدوات الكهربائية لا تقل ثقلاً، فالبرادات تبدأ أسعارها من مليوني ليرة لتصل إلى خمسة عشر مليونا، بحسب العلامة التجارية والتصميم.
أما الغسالات الجيدة فتتراوح أسعارها بين ثلاثة وستة ملايين ليرة، فيما تباع الغسالة ذات الحوضين بسعر يتراوح بين مليون ونصف المليون ومليوني ليرة.. وتتراوح أسعار أفران الغاز بين مليون ونصف المليون ليرة وبين أربعة ملايين ليرة.
وبفعل هذا الغلاء، لجأت كثير من العائلات إلى الاستعاضة عن بعض الأجهزة بأدوات بديلة، فبدلاً من الفرن الكبير، يكتفى بموقد صغير أو “غاز أرضي”، وتستخدم بعض الأسر الغسالات ذات الحوضين بدلاً من الأوتوماتيك، فيما تلجأ أخرى إلى غسل الملابس يدوياً، لتعود وتصبح هذه الأفعال جزءاً من المشهد المنزلي في حلب وضواحيها.
أمام هذه المعطيات، نشطت تجارة الأثاث المستعمل بشكل ملحوظ، ففي أحياء مثل صلاح الدين، والسكري والميسر وسوق الجمعة في حلب، تنتشر محال تبيع كل شيء، من غرف النوم والصالونات إلى البرادات والغسالات القديمة، لكن المفارقة أن أسعار المستعمل أيضاً لم تعد زهيدة كما في السابق، بل باتت تقارب الجديد أحياناً بعد إعادة صيانتها.
يقول أبو مرشد، وهو شاب يعمل في محال بيع المستعمل: الناس يتجهون إلينا لكون الأسعار أقل من الجديد، لكن حتى هنا لم تعد الأمور سهلة، فمعظم القطع التي نعرضها نقوم بصيانتها وإصلاحها، وبالتالي يضاف هذا على السعر النهائي، ومع ذلك، تبقى أرخص من شراء الجديد، المشكلة أن دخل المواطن لا يتناسب مع أي من هذه الأسعار.
فجوة بين الدخل والأسعار
وفق تقديرات خبراء اقتصاديين، يبلغ متوسط دخل الموظف الشهري نحو 100 دولار بعد الزيادة الأخيرة، وهذا المبلغ لا يكفي حتى لتغطية أساسيات الغذاء والدواء والمواصلات، فيما تبقى الحاجات الأخرى، ومنها الأثاث والأجهزة، مؤجلة إلى أجل غير مسمى، وبالمقارنة مع تكلفة تجهيز منزل جديد التي قد تصل إلى 3 آلاف دولار، فإن المواطن يحتاج إلى ادخار راتبه كاملاً لسنوات طويلة، وهو أمر شبه مستحيل.
يؤكد الخبير الاقتصادي فادي حمود أن أزمة الأثاث تعكس بوضوح واقع التضخم، فالقدرة الشرائية تآكلت بشكل كبير، وأسعار الأثاث ارتفعت بمعدل يفوق 400 بالمئة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، بينما الأجور لم تشهد سوى زيادات محدودة، آخرها قبل نحو شهر 200 بالمئة، لتبقى الفجوة تفسر لماذا بات شراء الأثاث حلماً صعب المنال.
الأزمة لم تبق في إطار الاقتصاد فحسب، بل انعكست على المجتمع أيضاً، فالكثير من الشباب المقبلين على الزواج اضطروا لتأجيل زواجهم سنوات طويلة لعدم قدرتهم على تأمين منزل وأثاث، بعضهم اتجه إلى حلول وسط مثل شراء الضروريات فقط وتأجيل الكماليات، أو الاستعانة بأثاث مستعمل من أقارب.
تقول ملك، موظفة، 22 عاماً: كنت أتمنى أن أبدأ حياتي الزوجية بأثاث جديد وجميل، لكن الواقع فرض علي القبول بما هو متاح، استخدمت غرفة نوم قديمة كانت عند أخت زوجي، وبعض القطع من السوق المستعمل، في البداية شعرت بالإحباط، لكن مع الوقت أدركت أن الأهم هو الاستقرار، وليس شكل الأثاث.
من جانب آخر، يلفت الاختصاصي الاجتماعي حيدر السلامة إلى أن هذه الأزمة تترك آثاراً نفسية على الشباب أهمها، تأجيل الزواج أو الدخول في ديون مرهقة تسبب ضغوطا نفسية كبيرة، تؤدي أحياناً إلى خلافات أسرية، كما أن شعور الفرد بالعجز عن تأمين حاجاته الأساسية يولد لديه إحباطاً قد يتحول إلى سلوك سلبي أو عدواني.
حلول مطروحة.. ولكن!
على الرغم من الصورة القاتمة، ثمة محاولات لمعالجة الوضع، فقد أطلقت بعض الجمعيات الخيرية مبادرات لتأمين أثاث مستعمل للعائلات المحتاجة مجاناً أو بأسعار رمزية، كما لجأت بعض الورش الصغيرة إلى تصنيع أثاث بمواد أقل جودة لتخفيض الأسعار، مثل استخدام الخشب المضغوط بدلاً من الطبيعي. لكن هذه الحلول تبقى محدودة، فالمشكلة الأساسية مرتبطة بارتفاع تكلفة المواد الأولية وأجور النقل والضرائب، وهي عوامل لا يمكن معالجتها إلا عبر تدخل حكومي أوسع، يقترح بعض الصناعيين أن يتم دعم استيراد المواد الأساسية لصناعة الأثاث، أو إعفاء الورش الصغيرة من بعض الرسوم لتخفيض الأسعار، كما أن تعزيز الإنتاج المحلي من الأخشاب والإسفنج يمكن أن يساهم في تقليص الفجوة.
أحلام مؤجلة
في نهاية المطاف، يقف المواطن بحلب أمام معادلة شديدة الصعوبة.. الحاجة إلى الأثاث كجزء أساسي من حياة كريمة، مقابل واقع اقتصادي لا يرحم، وفي ظل استمرار الأزمة المعيشية وغياب حلول جذرية، يبدو أن “بيت العمر” الذي يحلم به الشباب سيبقى حلماً مؤجلاً، وأن “أثاث الأحلام” سيظل بالنسبة للكثيرين بعيد المنال.
الثورة
المصدر:
http://www.syriasteps.com/index.php?d=128&id=202687