
سيرياستيبس : كم مُرَّة هي الكأس التي تجرَّعتها السيدة فيروز برحيل ابنها الفنان الكبير زياد الرحباني،
بل كم أليم هو هذا الجرح الذي اخترق روحها كأم كانت فقدت قبل سنوات ابنتها
الشابة ليال، وبكتها بحرقة. واليوم، بدت كأنها "الأم الحزينة" عندما دخلت
مكللةً بالأسود كنيسة سيدة الرقاد في بلدة المحيدثة - بكفيا (شرق بيروت)
ترافقها ابنتها ريما، لتودع ابنها المسجى داخل التابوت وتلقي عليه نظرة
أخيرة، بعدما استأذنت الحاضرين بالخروج لتختلي به وتكلمه وتُبكيه.
ولما أنهت هذا "اللقاء" الأخير بزياد خرجت ثم
انتحت زاوية في القاعة الكبرى جالسة بصمت متقبلةً العزاء في حال من الوجوم،
وعلى عينيها نظارة تخفي حزنها العميق. وبين قاعة الكنيسة وصالة التعزية
ارتفعت الصلوات والأناشيد الأرثوذكسية وترتيلة "أنا الأم الحزينة" بصوت
فيروز. وكانت بيروت شيَّعت عند التاسعة صباحاً زياد
عند خروج جثمانه في التابوت من مستشفى خوري في منطقة الحمراء، بحضور حشد
كبير من أصدقاء الفنان ورفاقه ومحبيه، عطفاً على ممثلين وموسيقيين ومطربين
تجمعوا أمام باب المستشفى ليودعوه ويرافقوه في "مشواره" الأخير في قلب
الحمراء التي عاش وأقام فيها معظم سنوات حياته، بدءاً من عام 1976 عندما
قرر هجر بيت أهله في بلدة أنطلياس (شرق بيروت) منتقلاً إلى ما يسمى بيروت
الغربية.
بدا تجمع الأصدقاء الذين وفدوا من كل المناطق
أشبه بتظاهرة فنية وشعبية ضمت مواطنين من كل التيارات السياسية والمدنية،
وفيها ارتفعت صور لزياد. وفي وسط الحشد اختلط البكاء بالتنهيدات وعبارات
الوداع والهتافات باسم زياد. وعندما أقلعت السيارة الحاملة للنعش وسط
الجموع انهال الورد وحبوب الرز كما لو أن الأصدقاء يزفون زياد ولا يودعونه.
ولم يتمكن الموكب من اختراق الصفوف بسهولة، نظراً إلى الازدحام البشري
الشديد.
ولئن حشدت بيروت والحمراء مثل هذا الجمع الغفير
في وداع زياد، فإن مدخل بكفيا، بلدة الرئيس أمين الجميل، خلا من
المستقبلين، لكن جمعاً من الأصدقاء وأبناء رعية الكنيسة في المحيدثة، كانوا
ينتظرون وصول الموكب إلى الباحة الخارجية ليستقبلوا الجثمان بالصلوات
والبخور. وبدا المشهد مختلفاً كل الاختلاف بين الحمراء وبكفيا، وهو اختلاف
ذو دلالات عدة.
وراحت
تتوافد بالتوالي إلى صالة التعزية، شخصيات سياسية وإعلامية وفنية من كل
المناطق، مقدمةً أحرَّ التعازي إلى الأسرة، بينما مكثت فيروز جالسة
والإعياء بادٍ عليها. أما أقسى ما في المشهد المأساوي، فهو تدشين زياد
المقبرة الجديدة التي بنتها السيدة فيروز لعائلتها، في قرية متاخمة لبلدة
المحيدثة، ولدراتها الصيفية.
|