لم
تشفع "ليالي عتمة السوريين الطويلة" عند حكومات النظام السابق خلال أعوام
الحرب، وبقيت تلك الحكومات مصرة على استيراد النفط عوضاً عن التوجه
لاستثمار ثروة مهمة تمتلكها بلادها والتي من الممكن أن تكون حلاً أكيداً
لمشكلة الكهرباء وأقل كلفة واستدامة من الاستيراد.
تلك الثروة تصل إلى 40 مليار طن من "السجيل الزيتي" أو ما يطلق عليه محلياً "الصخر الزيتي" (النفط الصخري) موجودة في منطقة خناصر قرب مدينة حلب، فضلاً عن كميات مهمة في وادي اليرموك جنوب سوريا.
وعلى رغم محاولات الإشارة والتنبيه إلى
أهمية استثمار "النفط الصخري" كحل لموضوع تأمين الغاز والفيول لزوم محطات
توليد الكهرباء، فإنه ظل خارج معادلات الطاقة في سوريا.
ويعتبر النفط الصخري مصدراً مهماً للطاقة،
نظراً إلى احتوائه مواد يمكن تحويلها إلى مشتقات نفطية، بالتالي الاستفادة
منها بصورة كبيرة في إنتاج الطاقة الكهربائية، لكنه لم يستغل على رغم
الإعلان عن وجود احتياط كبير منه، يجعل سوريا في المرتبة الثالثة عربياً
بعد الأردن والمغرب.
يشار إلى أن أول إعلان رسمي عن وجود النفط
الصخري في سوريا كان في مايو (أيار) عام 2010، عندما أفادت وزارة النفط
والثروة المعدنية عن اكتشاف كميات هائلة منه في منطقة خناصر بمحافظة حلب
وفي منطقة وادي اليرموك بمحافظة درعا.
ثروة خامدة تنتظر من يوقظها
وفي مارس (آذار) عام 2021، وخلال ذروة أزمة الكهرباء في سوريا بعدما
هبطت إلى نحو 4 آلاف ميغاواط، كشف وزير النفط والثروة المعدنية السابق
بسام طعمة في حديث إلى قناة "الإخبارية" السورية آنذاك عن الثروة السورية
المهمة التي تصل إلى 40 مليار طن من النفط الصخري.
وقال طعمة آنذاك "إذا اعتمدتا على هذه
الثروة، فإنها ستتيح لنا كبلد أن نحرر كميات الغاز التي تذهب إلى توليد
الكهرباء لغايات أخرى، خصوصاً أن استخدام الغاز في توليد الكهرباء هو أقل
جدوى اقتصادية من أي شيء آخر، كاستخدامه في السيارات، أو المنازل، أو في
صناعة الأسمدة، أو في صناعة حبيبات الـ’بولي إتيلين‘ التي نستوردها"،
مضيفاً أن "المردود سيكون أعلى بكثير، إذ يمكن استخدام النفط الصخري بالحرق
المباشر لتوليد البخار من أجل توليد الكهرباء، مما يوفر أيضاً آلاف فرص
العمل".
مشروع لتوليد الكهرباء بـ800 مليون دولار
يشار إلى أنه خلال عهد آخر حكومة للنظام
السابق، تحديداً في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024، نوقشت الفرص
الاستثمارية في المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية، وفي مقدمتها
مشروع توليد الكهرباء واستخلاص المشتقات النفطية من النفط الصخري، لكن مع سقوط النظام أهمل المشروع.
يذكر أن المشروع الذي طرح للاستثمار ولم يجذب المستثمرين كان يستهدف إنتاج
الكهرباء بالحرق المباشر للنفط الصخري في منطقة خناصر قرب حلب بكلفة
مبدئية 800 مليون دولار وبطاقة إنتاجية تقدر بنحو 600 ميغاواط، ولكنه توقف
على رغم منح المشروع تسهيلات وحوافز.
وبحسب البيانات الرسمية، فإن الكمية
المطلوبة لإنتاج 4000 ميغاواط في حال استثمرت الدولة في النفط الصخري
بالحرق المباشر تقدر بـ73.7 مليون طن سنوياً، مما يمثل 0.18 في المئة من
إجمال الكمية المعلن عنها رسمياً في منطقة خناصر بحلب، ويشير إلى أن احتياط
سوريا منه يكفيها لأعوام طويلة.
ويبدو أن الحكومة السورية الحالية تسعى
إلى استثمار ثروات البلاد المهمة، مما وضع النفط الصخري في دائرة الاهتمام
من جديد، خصوصاً مع إعلان وزارة النفط السورية عن خطة للنهوض بقطاع النفط
والطاقة والثروات المعدنية.
"النفط الصخري" لسد فجوة إنتاج الكهرباء
من جهته قال الجيولوجي السوري محمد تيشور
إن الاستثمار في النفط الصخري يجب أن يكون ضمن قائمة أولويات الحكومة،
خصوصاً أن فجوة الكهرباء في البلاد لا تزال مرتفعة، كذلك حقول النفط لا
تزال خارج سيطرة الدولة، مضيفاً أنه حتى إذا عادت تلك الحقول فإن النفط
الصخري يشكل قطاعاً مهماً واقتصادياً على المدى الطويل. وأشار إلى أن إنشاء
محطات توليد كهربائية بالاعتماد على الحرق المباشر للنفط الصخري يبدو
اقتصادياً على رغم ارتفاع كلف التأسيس، ويعد أيضاً حلاً لأزمة توليد
الكهرباء في الظروف الحالية التي تمر بها سوريا، إذ يقف عدم توافر الغاز
والفيول حائلاً دون النهوض بكميات الكهرباء المنتجة، مما فرض نفسه طوال
أعوام الحرب كواقع، لافتاً إلى أن الحكومات المتعاقبة لم تتصدَّ ولم تجد
حلولاً على رغم توافر كميات كبيرة من النفط الصخري الذي يحتاج وحسب إلى من
يحرره إلى طاقة. وأوضح تيشور أن الكلفة التأسيسية لإنتاج 1 ميغاواط من
الكهرباء بالاعتماد على الوقود التقليدي تبلغ مليون دولار، في حين تبلغ
مليون ونصف مليون دولار في النفط الصخري، مستدركاً "لكن بما أن 90 في المئة
من كلفة توليد الكهرباء هي ثمن الوقود فإن الكلفة التأسيسية ستكون مرتفعة
بينما كلفة التشغيل ستكون منخفضة. وأكد أنه لو لجأت سوريا إلى استثمار
النفط الصخري منذ أن بدأت أزمة الكهرباء نتيجة نقص الوقود وخروج آبار النفط
عن سيطرة الدولة، لكان وضع الكهرباء في البلاد مختلفاً تماماً وكانت
مليارات الدولارات جرى توفيرها عوضاً عن إنفاقها على استيراد النفط. وأشار
إلى ضرورة أن يدخل النفط الصخري كخيار أمام الحكومة الحالية في إنتاج
الكهرباء بطريق الحرق المباشر لأن الكلف أقل بكثير من تقنية تسخين التربة،
خصوصاً أن البلاد تملك احتياطاً كبيراً ويكفي لأعوام طويلة مقبلة.
وقال تيشور "حتى ولو عادت حقول النفط
لسيطرة الدولة فإنه من الضروري أن يكون النفط الصخري خياراً أمام الحكومة
وأن تعمل على استثمار هذه الثروة المهمة على غرار ما فعله الأردن الذي يصدر
الكهرباء حالياً"، موضحاً أن استثمار تلك الثروة يمكن أن يتم بالتدرج على
مدى الأعوام المقبلة فما يدفع كمليارات سيسترد أيضاً كمليارات لكن مع
كهرباء وفرص عمل، ولفت إلى أنه متعدد الاستخدامات وكلها مهمة، ففضلاً عن
الحرق المباشر في محطات توليد الطاقة الكهربائية يمكن استخدامه في صناعة
الأسمنت البورتلاندي وتسميد واستصلاح الأراضي، إضافة إلى استخدام الرماد
الناتج من عملية الحرق في التسميد الزراعي، بخاصة أن الدراسات والتحاليل
التي أجرتها المؤسسة العامة للجيولوجيا أكدت وجود العناصر النادرة التي
تزيد من القيمة الاقتصادية للخام. وأشار إلى أن استثمار الاحتياط الموجود
في خناصر بريف حلب هو الأهم اقتصادياً لأنه يبعد من التجمعات السكانية
والأرض غير صالحة للزراعة هناك، ويشكل موقعاً لربط شبكات الكهرباء بين
الشمال والجنوب والشرق والغرب.
المتخصص السوري قال رداً على سؤال
لـ"اندبندنت عربية" إن الاستثمار في النفط الصخري قد يبدو غير مشجع لتدني
سعر إنتاج الكهرباء من الوقود الأحفوري (نفط وغاز) أو من الطاقات المتجددة
قياساً بكلفة إنتاجها من "السجيل الزيتي" عدا عن الأثر البيئي الذي يتركه
الأخير بانبعاثاته التي تتشابه إلى حد بعيد مع الفحم الحجري ولكن بمردود
حراري أقل، مستدركاً "لكن في وضع كوضع سوريا ومع وجود حاجة كبيرة إلى
الكهرباء، فإن التوجه نحو هذا النوع من الطاقة أمر مطلوب بل تأخرت البلاد
عن استثماره 14 عاماً كاملة، وبالنسبة إلى موضوع البيئة فإن تقنيات الحفاظ
على البيئة تطورت ويمكن الاعتماد عليها"، مؤكداً أن استثمار النفط
الصخري يجب أن يتم بطريقة الحرق المباشر لأن تقنية الحرق المباشر لتوليد
الكهرباء غير معقدة وتنتج من الحرق كميات كبيرة من "الكلنكر" الأساسية في
صناعة الأسمنت، كما تنتج مواد تسهم في تحسين التربة.
محادثات مع شركات إستونية لم تثمر
وبحسب معلومات حصلت عليها "اندبندنت
عربية"، فقد طرحت فكرة استثمار النفط الصخري في توليد الكهرباء عن طريق
الحرق المباشر وجرى التواصل مع شركات إستونية لأن إستونيا متقدمة في هذا
الأمر وتولد أكثر من 85 في المئة من حاجاتها الكهربائية من النفط الصخري،
فضلاً عن أن الشركة الإستونية هي التي تولت بناء محطة لتوليد الكهرباء في
الأردن من التفط الصخري. وبالفعل عقدت لقاءات عدة ولكن لطبيعة الظرف في
سوريا والأخطار الكبيرة توقفت المفاوضات وبقيت الأمور على حالها.
وأكد
متخصصون سوريون أن "النفط الصخري" السوري يتمتع بمواصفات جيدة ونسبة الزيت
تراوح ما بين تسعة و12 في المئة وهي محفزة للاستثمار، لكن حتى يكون
الاستثمار مثمراً يجب أن يكون سعر برميل النفط فوق 80 دولاراً، إذ إن كلف
الاستثمار في "السجيل الزيتي" مرتفعة وهذا الأمر ملموس، فالولايات المتحدة
الأميركية تملك أكبر احتياط في العالم ولكنها خفضت استثماراتها في الزيت
الصخري بعد انخفاض أسعار النفط ووجهتها للنفط، مشددين على أن مع معاناة
سوريا فجوة كبيرة في إنتاج الكهرباء، فلا بد من التوجه نحو النفط
الصخري كأحد الخيارات.
اندبندنت عربية