سيرياستيبس :
بمجرد إعلان إلغاء "قيصر"، فإنه لن يفتح الطريق لتنفيذ الاستثمارات التي جرى إعلانها فقط، إنما سنشهد تدفقاً لموجات غير متوقعة من الاستثمارات، وقد تأخذ طابعاً دولياً في بعضها.
يبدو أن حديث الساسة السوريين بدأ يشير بصورة أوضح من أي وقت مضى إلى أن سوريا قد تبدو مقبلة فعلاً على مرحلة نمو وتطور، ففي وقت أعلن فيه الرئيس أحمد الشرع جذب بلاده لاستثمارات تقدر بـ28 مليار دولار خلال مشاركته في مؤتمر للاستثمار بالرياض، عاد وتحدث خلال لقاء له مع المنظمات السورية في واشنطن أن "العقوبات في مراحلها الأخيرة، وأن الفرصة التي أتت إلى سوريا نادرة وعليها استثمارها"، في حين قال وزير الخارجية أسعد الشيباني ومن واشنطن أيضاً إن "عام 2026 سيكون عام التنمية وستكون البلاد بلا عقوبات".
وعلى رغم أن عدداً من المتابعين للشأن السوري يؤكدون أن الاستثمارات الأهم التي ستتوجه إلى سوريا لم يجر إعلانها بعد، وأن إلغاء قانون قيصر سيكون نقطة تحول كبرى في تدفق الاستثمارات الدولية والإقليمية إلى سوريا، فإن رقم الـ28 مليار دولار الذي أعلن كاستثمارات تمكنت دمشق من جذبها يشكل فرصة حقيقية للبدء بإعادة الإعمار والنهوض بقطاع البنى التحتية التي تشكل قاعدة ومنطلق النمو في البلاد.
وكان البنك الدولي، وفي أحدث تقرير حول سوريا له، قدر الأضرار المادية المباشرة للبنية التحتية والمباني السكنية وغير السكنية بنحو 108 مليارات دولار، منها 52 مليار دولار تمثل إجمالي الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وحدها، مشيراً إلى أنه، وفي أفضل تقدير متحفظ، تحتاج سوريا إلى 216 مليار دولار، تتوزع بين 75 مليار دولار للمباني السكنية، و59 مليار دولار للمنشآت غير السكنية، و82 مليار دولار للبنية التحتية.
ووفقاً للتقرير، فإن الكلفة التقديرية لإعادة الإعمار تشكل نحو 10 أضعاف إجمالي الناتج المحلي المقدر لسوريا لعام 2024، وتراوح كلفة إعادة إعمار الأصول المادية المتضررة ما بين 140 و345 مليار دولار، مما يبرز حجم التحدي والحاجة الماسة إلى الدعم الدولي.
مختصون تحدثوا لـ"اندبندنت عربية" حول أن رقم الاستثمارات "28 مليار دولار" الذي تمكنت سوريا من جذبه حتى الآن سيذهب بمعظمه إلى قطاع البنى التحتية، بخاصة الكهرباء والغاز والنفط والنقل والسكن، معتبرين أن الرقم جيد في ظل ظروف البلاد الصعبة بعد 14 عاماً من النزاع والدمار والحصار، بينما لا يزال قانون قيصر جاثماً على صدرها.
وأشاروا إلى أنه بمجرد إعلان إلغاء قانون "قيصر"، لن يفتح الطريق لتنفيذ الاستثمارات التي جرى إعلانها فقط، إنما سنشهد تدفقاً لموجات غير متوقعة من الاستثمارات، وقد تأخذ طابعاً دولياً في بعضها، مشيرين إلى أن الوقت قد حان لاستثمار الموقع الجغرافي والتجاري الذي تتمتع به سوريا.
إلى ذلك، توقعت مصادر تحدثت لـ"اندبندنت عربية" أنه مع التطورات السياسية المتسارعة التي قد تفضي إلى إلغاء قانون "قيصر" بعد إزالة اسم الرئيس السوري ووزير داخليته من قوائم الإرهاب، قد تكون سوريا مقبلة على مرحلة بناء كبيرة، وقد لا تبدو الـ28 مليار دولار التي أعلنها الرئيس السوري أحمد الشرع إلا مقدمة لعشرات المليارات الأخرى "إن لم تكن مئات" التي يمكن أن تأخذ طريقها إلى سوريا، البلد المرشح ليكون مركز عبور لخطوط نقل النفط والغاز وأيضاً خطوط الإنترنت وكثير من المشاريع التكنولوجية والرقمية ذات البعد الإقليمي والدولي.
مذكرات جدية وليست زوبعة إعلامية
اعتبر رجل الأعمال السوري المغترب ياسر أسعد أن التوجه الاستثماري صوب سوريا لا يكمن فقط في كمية الأموال التي يمكن أن تستقطبها، بل في نوعية وجنسية الاستثمارات والأبعاد الإقليمية وربما الدولية لهذه الاستثمارات، واصفاً سوريا بالدولة البكر والغنية بالمواد الأولية "كثير منها غير مستثمر وربما غير مكتشف حتى الآن"، مما يجعل الاستثمار فيها مجزياً ومهماً بل و"ملهماً"، بحسب وصفه.
وأكد أن "من المتوقع أن يكون هناك تنوع مهم في جنسيات الاستثمار المقبل على سوريا، فالسعوديون والإماراتيون والقطريون حجزوا استثمارات كبرى بمليارات الدولارات، وإن كنت أعتقد أن سمة الاستثمار في سوريا ستذهب لتكون ذات طابع دولي، بمعنى قد نشاهد، وعلى سبيل المثال، استثمارات أميركية مهمة في سوريا، تحديداً في قطاع الطاقة وصناعة الرقائق، ولننتظر فقط الاستثمارات التي ستوجه إلى غاز الساحل أو آبار النفط التي ما تزال بكراً في الجزيرة السورية، وبالتالي نحن أمام حقيقة تقول إن الاستثمار الأجنبي سيكون محورياً في أية خطة يتم تبنيها لتعافي الاقتصاد السوري، بل هذا ما يفسر "ما قاله الرئيس الشرع بأن سوريا ستلجأ إلى التنمية من بوابة الاستثمار".
وتابع "هنا لنسأل السؤال التالي: ما هي الاستثمارات التي يمكن أن نتوقعها في بلد يمتلك احتياطات كبيرة من رمال السيليكا عالية النقاوة التي تصنف ضمن أفضل الأنواع، وتتجاوز نسبة نقاء أكسيد السيليكون فيها 98 في المئة؟".
وأكد في حديثه أن النشاط السياسي المتسارع لقادة البلاد الجدد سيكون له انعكاسات مباشرة على الاستثمار في سوريا، وقد تكون فرصها الكبرى في طريقها للتحقق فعلاً.
وأوضح "لا تملك سوريا ترف أن توصف مذكرات التفاهم الاستثمارية التي وقعتها بأنها زوبعة إعلامية، كما يحاول بعضهم القول، ولا أعتقد أن المستثمرين الذين جاؤوا إلى سوريا وأعلنوا مشاريعهم، وبعضهم بدافع من حكومات بلدانهم، لديهم نية عدم التنفيذ"، مشيراً إلى أن من يزور دمشق سيكتشف أن لقاءات العمل واستكشاف فرص الاستثمار لا تتوقف ليل نهار.
وأعرب عن أمله أن تتمكن الحكومة السورية من ترتيب بيئة الاستثمار بصورة متقنة، وألا يجد المستثمر أي منغصات عند قدومه، فالمال يحتاج إلى بيئة مثالية ليعمل وينمو، مشيراً إلى أن خيار البلاد طريق التنمية عبر الاستثمار خيار موفق، ومن شأنه خلق فرص عمل واسعة وكبيرة، وتحقيق ذلك يحتاج، مع إتمام إلغاء العقوبات والنجاح في قانون قيصر، إلى الجدية في تحقيق ما وصفه بالأمن الاقتصادي والاستثماري، أي أن "العبرة في التنفيذ" أولاً وأخيراً.
ترجمة الأموال عبر بناء مناخ استثماري متطور
المستشار في مجال الطاقة زياد عربش، قال إنه كان لافتاً جداً إعلان الرئيس السوري جذب استثمارات بقيمة 28 مليار دولار خلال الأشهر الـ10 الماضية، ولعله من المهم التركيز على أن الاستثمار هو الطريق الأمثل الذي اختارته سوريا لإعادة الإعمار بدل الاعتماد على المساعدات.
وأشار إلى أن الاستثمارات المعلنة تشمل قطاعات عدة، وعلى رأسها مشاريع البنية التحتية مثل الطاقة وتطوير مشاريع حيوية كشبكة المترو في دمشق وتوسعة مطار دمشق، إلى جانب استثمارات سعودية وإماراتية وتركية في مجالات عدة كالكهرباء والعقارات والموانئ وغيرها.
وبحسب عربش، فإن رقم الاستثمارات المعلن يعكس طموحاً كبيراً وانفتاحاً اقتصادياً جوهرياً بعد سنوات طويلة من الحرب والتدمير، لكنه، وعلى المستوى العملي، قد يغلب على عدد من المشاريع الطابع الرمزي، فقد لا تصل نسبة العقود الموقعة إلى نصف هذا الرقم، وذلك لأسباب عدة، أولها أن طبيعة الظروف المحيطة بالمشروع وعوائده قد تتغير فلا يقلع المستثمر، أو إذا كان هناك رهان على تعديل البيئة الناظمة والقانونية (لتصبح كلفة المشروع مغطاة بالكامل بالأرباح المتوقعة) ولم يجر ذلك حتى الآن، أو لجوء بعضهم للاستعراض والتباهي من دون أية جدية، وربما يكون هناك شكوك حول التمويل.
لكن بالمقابل، يقول عربش، "علينا أن ننظر إلى النصف الممتلئ من الكأس، فهناك عديد من المشاريع التي جرى الشروع بها وتحتاج إلى متسع من الوقت لنرى بوادر النتائج، إذ استلم عديد من الشركات مواقع العمل، ومنها من بدأ بتوظيف الكوادر العالية استعداداً للإقلاع".
وأوضح أن هناك اتفاقات كبيرة تخص قطاع الطاقة، ومنها اتفاق بقيمة 7 مليارات دولار مع ائتلاف من الشركات القطرية والتركية والأميركية لاستعادة وتنشيط قطاع الكهرباء والطاقة في البلاد، وهو قطاع حيوي لإعادة الإعمار، مضيفاً أن بناء قطاع الكهرباء يعد أساسياً لأن الطاقة هي العمود الفقري لتشغيل الصناعات السورية، والنهوض بقطاع الخدمات، وتطوير البنية التحتية بصورة عامة، وأن عدم قدرة الدولة على بناء قطاع كهرباء قوي ومستدام سيجعل تقدم إعادة الإعمار محدوداً، وحتى غير ممكن.
المختص السوري أوضح أنه مع وجود اتفاق بقيمة 7 مليارات دولار مع شركات قطرية وتركية وأميركية، يجب أن تبدأ الدولة بترجمة هذه الأموال في بناء قطاع الكهرباء والطاقة واعتبارها من أولويات إعادة الإعمار، تليها المشاريع الحيوية للبنية التحتية مثل الطرق والموانئ وشبكات النقل، التي تسهم في تنشيط الاقتصاد وجذب المستثمرين، والأهم هو خلق مناخ استثماري مستدام يحمي الاستثمارات ويضمن استمراريتها.
عربش شدد في سياق حديثه على ضرورة الاستثمار في تطوير البنية التحتية الاجتماعية مثل الصحة والتعليم بصورة تتكامل مع البنية التحتية الاقتصادية، ليشكل قاعدة صلبة للنمو والتنمية المستدامة.
لكن من أين يجب أن تبدأ الدولة لترجمة هذه الأموال؟ يقول عربش موضحاً "من خلال خلق مناخ استثماري مستدام بحيث يحمي الاستثمارات، وتتكامل فيه البنية التحتية الاجتماعية مع الاقتصادية لتحصيل النمو والتنمية المستدامة"، متوقعاً أن تبرز الحاجة لأن تلعب المؤسسات دوراً محورياً في تنظيم وتحفيز الاستثمارات، خصوصاً عبر تفعيل الأطر القانونية والضريبية، وتحسين البيئة التنظيمية لجذب المستثمرين.
وأكد في هذا السياق دور الرافعة التكنولوجية باعتبارها عنصراً أساسياً في تحديث القطاعات الاقتصادية، من خلال اعتماد تقنيات ذكية في قطاع الطاقة والبنية التحتية، وتحسين كفاءة الخدمات الصحية والتعليمية.
عربش أشار إلى أن مفاهيم اقتصاديات المكان ستأخذ أهمية متزايدة عبر استغلال الموارد المحلية والمميزات الإقليمية لتعزيز التنمية المتوازنة، والاستفادة من موقع سوريا الجغرافي كممر تجاري مهم بين الشرق والغرب، فهذه العوامل مجتمعة ستسهم في تحقيق إعادة إعمار أعمق وأكثر استدامة خلال عام 2026 وما بعده.
أولويات الاستثمار في سوريا
الاستشاري في قطاع الأعمال سعد بساطة قال من جانبه إن الاستثمارات التي استطاعت سوريا جذبها حتى الآن تشكل فرصة جيدة لتعزيز البنية التحتية وتحسين سوية الاقتصاد، بخاصة إذا وجهت بصورة فعالة ومخططة لها بصورة جيدة، متحدثاً في هذا السياق عن مشروع دراسة إعمار سوريا الذي وضعته الإسكوا عام 2016، الذي قدر في حينه كلفة إعادة الحياة الطبيعية بزهاء 200 مليار دولار، وتصاعد الرقم إلى ما يقارب 300 مليار دولار حالياً، مشيراً إلى أن الاستثمار لا يغطي سوى 10 في المئة من الكلف الكلية، وهذا لا يمكن أن نستهين به.
الاستشاري السوري أضاف أنه مع التحسن الملاحظ في الظروف السياسية وظهور بوادر بإلغاء قانون "قيصر"، يعتقد أن ذلك سيؤدي حكماً إلى جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية التي ستجد طريقها إلى قطاعات البنى التحتية والصناعة والخدمات، وبالمحصلة فإن زيادة الاستثمارات ستسهم في تعزيز الاقتصاد وتحسين البنية التحتية وتحسين الظروف المعيشية للسكان.
وأوضح أن أولويات الاستثمار في سوريا يجب أن تتركز في البنية التحتية بما في ذلك الطرق والجسور لتعزيز النقل والاتصالات، والمطارات والموانئ لتعزيز التجارة الدولية، والطاقة التي تحتاج إلى محطات توليد وأنظمة توزيع ونقل، أيضاً المياه والصرف الصحي لضمان حصول المواطن على المياه النظيفة والصرف الصحي الآمن، أما في مجال الصناعة فينبغي أن تكون أولوية الاستثمارات بما يساعد في تطوير الصناعات التحويلية، مثل صناعة النسيج والملابس والصناعات الغذائية التي تمتلك فيها سوريا قيماً مضافة عالية، وأيضاً الصناعات الثقيلة مثل صناعة الحديد والصلب والأسمنت، إذ يمكن ضخ مئات الملايين من الدولارات، في حين تحتاج الزراعة إلى استثمارات تساعدها في الميكنة وتحسين وسائل الري والالتفات إلى الزراعات العضوية.
أما قطاع الخدمات فيراه "الاستشاري السوري" محل أولوية للاستثمار، بخاصة قطاع السياحة الذي يحتاج إلى استثمارات كبيرة لرفع قدراته على الاستقطاب الخارجي، خصوصاً في ظل امتلاك سوريا لمقومات سياحية قائمة على التنوع والخصوصية، في حين يبدو قطاع التكنولوجيا مرشحاً لجذب استثمارات كبيرة ونوعية، وهو ما بدأت بوادره تظهر فعلاً من خلال الاتفاقات التي وقعتها سوريا على المستوى الإقليمي والدولي.
بساطة أشار في حديثه إلى مجموعة مزايا يجب أن تتصف بها الاستثمارات على المدى الطويل، من أبرزها الاستدامة بما في ذلك الاستثمارات في الطاقة المتجددة والبيئة، والابتكار بما في ذلك الاستثمارات في البحث والتطوير والابتكار التكنولوجي، بجانب التنمية البشرية، وخصوصاً في التعليم والصحة.
ولفت إلى أن "هناك تحديات لا يمكن أن نغفلها ونحن نتحدث عن جذب الاستثمارات، وإضافة إلى التحديات السياسية، هناك تحديات اقتصادية كبيرة تواجه سوريا وقد تؤثر في فعالية الاستثمارات، أضف إلى ذلك التحديات الأمنية، إذ لا تزال هناك جيوب عدم استقرار في بعض المناطق في سوريا، وقد تؤثر في الاستثمارات والنشاط الاقتصادي".
استهداف مباشر للبنى التحتية
من أهم المشاريع التي يمكن الحديث عنها توقيع اتفاقات استثمارية بـ14 مليار دولار مع عدد من الشركات العربية والأجنبية، وغالبها ذو صبغة دولية، وشملت 12 مشروعاً استراتيجياً في مجالات البنية التحتية والنقل والتطوير العقاري، وأبرزها تطوير مطار دمشق الدولي باستثمار قدره 4 مليارات دولار، وإنشاء مشروع مترو دمشق بملياري دولار، إضافة إلى إنشاء أبراج سكنية بقيمة 2.5 مليار دولار.
وفي يوليو (تموز) الماضي، عقد في دمشق المنتدى الاستثماري السوري – السعودي، الذي أسفر عن توقيع 47 اتفاقاً ومذكرة تفاهم بقيمة تصل إلى 6.4 مليار دولار.
كما تم التوقيع في شهر مايو (أيار) الماضي على مذكرة تفاهم مع تحالف من شركات رائدة في مجال الطاقة بقيمة 7 مليارات دولار، والشركات هي: شركة "أورباكون القابضة" القطرية من خلال شركتها "يو سي سي" القطرية، وشركة "بور إنترناشونال" الأميركية، وشركة "جاليون إنيرجي" وشركة "جنكز إنيرجي" التركيتين.
اندبندنت عربية




