سيرياستيبس
بدأت الآثار المترتبة على السياسات التجارية الحمائية، وعلى رأسها الرسوم الجمركية المرتفعة، تنعكس تدريجاً على مسار الاقتصاد العالمي.
وبينما كانت التحذيرات الاقتصادية تدور لفترة طويلة حول احتمالات التأثر، باتت المؤشرات الراهنة تشير إلى أن التأثير الحقيقي بدأ بالفعل بالظهور.
من آسيا إلى أوروبا مروراً بالولايات المتحدة، تظهر علامات تباطؤ اقتصادي، بعضها مرتبط بصورة مباشرة بالرسوم المفروضة، وبعضها الآخر يعكس تراجع الثقة والانكماش في التجارة والاستثمار.
التقرير التالي يستعرض أبرز الدلائل على هذه التحولات، ويحلل ما إذا كانت الرسوم الجمركية بالفعل أحد المحركات الرئيسة لتباطؤ النمو العالمي.
الهند: أول الضحايا المباشرين لرسوم ترمب في سبتمبر (أيلول) الجاري، أظهر مسح سريع أجرته شركة "أتش أس بي سي" HSBC أن النشاط الاقتصادي في الهند (ثالث أكبر اقتصاد في آسيا) تباطأ بصورة ملحوظة بعد دخول رسوم جمركية أميركية بنسبة 50 في المئة حيز التنفيذ.
هذه الرسوم التي وصفها بعضهم بـ"الانتقامية"، جاءت رداً على ما اعتبرته واشنطن "حواجز تجارية" أقامتها نيودلهي، فضلاً عن مشترياتها المستمرة من النفط الروسي.
ووفقاً للمؤشر المركب لمديري المشتريات، انخفض المؤشر من 63.2 نقطة في أغسطس (آب) الماضي إلى 61.9 نقطة في سبتمبر الجاري، وهو تراجع مهم، وإن كان لا يشير بعد إلى انكماش، ومع ذلك فإن الانخفاض الواضح في مؤشري التصنيع والخدمات إلى (58.5 و61.6 نقطة على التوالي) يعكس فقداناً للزخم الاقتصادي.
وبحسب كبير الاقتصاديين في بنك "أتس أس بي سي" فإن هذا التباطؤ "ربما يكون علامة مبكرة على تأثير الرسوم الجمركية في الطلب الخارجي، خصوصاً على طلبات التصدير الجديدة التي شهدت تباطؤاً في شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين".
في المقابل، حاولت الحكومة الهندية التخفيف من الأثر عبر خفض الضرائب على السلع الأساسية، في محاولة لتحفيز الاستهلاك المحلي ودعم معنويات السوق.
في غضون ذلك، تراجعت الروبية الهندية إلى مستوى قياسي جديد، بعدما أثار قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب المفاجئ برفع رسوم التأشيرات مخاوف إضافية بشأن الرسوم الجمركية العقابية التي تفرضها الولايات المتحدة، وانخفضت العملة الهندية بنسبة 0.5 في المئة لتسجل 88.79 مقابل الدولار، اى أدنى من المستوى السابق المسجل في 11 سبتمبر الجاري. ويشير محللون إلى أن الزيادة الكبيرة في رسوم التأشيرات قد تضغط على هوامش أرباح شركات البرمجيات الهندية، وتؤثر سلباً في تحويلات العاملين من الخارج.
منطقة اليورو: نمو هش يفتقر إلى الزخم على الجانب الآخر من العالم، يبدو أن منطقة اليورو ليست في وضع أفضل، فعلى رغم أن مؤشر مديري المشتريات المركب للمنطقة ارتفع إلى 51.2 نقطة في سبتمبر عام 2024 (أعلى مستوى منذ 16 شهراً)، فإن الطلبيات الجديدة بقيت راكدة، مسجلة قراءة محايدة عند 50 نقطة، مما يشير إلى أن النمو في منطقة اليورو لا يستند إلى طلب حقيقي أو استدامة طويلة الأمد، بل ربما يكون مدفوعاً بعوامل موقتة، وكما قال كبير المحللين في بنك "هامبورغ" التجاري سايروس دي لا روبيا، "لا تزال منطقة اليورو على مسار النمو، ومع ذلك ما زلنا بعيدين من رؤية أي زخم حقيقي".
واللافت أن الفجوة بين أكبر اقتصادين في المنطقة (ألمانيا وفرنسا) آخذة في الاتساع، إذ سجلت ألمانيا أسرع وتيرة نمو منذ مايو (أيار) عام 2023، بينما شهدت فرنسا انكماشاً في النشاط الاقتصادي للشهر الـ13 على التوالي، مع ارتفاع حدة الانكماش إلى أعلى مستوياتها منذ أبريل (نيسان) الماضي.
وهذا التباين يكشف عن هشاشة التعافي الأوروبي، ويؤكد أن التكتل لا يزال عرضة للتقلبات المرتبطة بالطلب الخارجي وسلاسل الإمداد، وأيضاً بالسياسات التجارية الدولية.
فرنسا: تدهور متواصل في ظل ضعف الطلب تعد فرنسا مثالاً واضحاً على التأثر بالمتغيرات التجارية العالمية، فبحسب مسح أجرته "ستاندرد أند بورز" أمس الثلاثاء، انخفض مؤشر الإنتاج المركب لمديري المشتريات في فرنسا إلى 48.4 نقطة في سبتمبر الجاري، مقارنة بـ49.8 نقطة في أغسطس الماضي، وهو أدنى مستوى له في خمسة أشهر.
وكانت القطاعات الأكثر تضرراً التصنيع والخدمات، بعدما انخفض مؤشر التصنيع إلى 48.1 نقطة ومؤشر الإنتاج الصناعي إلى 45.9 نقطة (أدنى مستوى في سبعة أشهر).
عقوبات أوروبية مرتقبة تضع الاقتصاد الإسرائيلي على حافة أزمة وأرجع التقرير الذي أعدته مؤسسة التصنيف الائتماني هذا التراجع إلى ضعف في الطلبيات الجديدة للشهر الـ16 على التوالي، مما يعكس تراجعاً في الطلب المحلي والدولي.
كذلك، أقدمت الشركات الفرنسية على خفض أسعارها للمرة الأولى منذ مايو الماضي، على رغم ارتفاع الكلف التشغيلية، في مؤشر إلى المنافسة الشديدة وضعف القوة الشرائية، وهي عوامل ترتبط جزئياً بتقلبات الأسعار الناتجة من الرسوم الجمركية وكلف الاستيراد.
الولايات المتحدة: ركود محتمل وتضخم متواصل في الغرب، لم يسلم الاقتصاد الأميركي الذي يعد أكبر اقتصاد في العالم من التبعات، فارتفع خطر الركود في الولايات المتحدة إلى 48 في المئة وفقاً لوكالة "موديز أناليتكس"، وهو أعلى مستوى منذ جائحة "كوفيد-19" عام 2020.
ويأتي هذا التقييم في ظل عدد من المؤشرات المقلقة، أبرزها فقدان نحو 910 آلاف وظيفة في القطاع الخاص خلال 12 شهراً، إضافة إلى تراجع الثقة بنمو الدخل الحقيقي خلال الفترة المقبلة، فضلاً عن الرسوم الجمركية التي وصلت إلى 19.5 في المئة على بعض الواردات وأسهمت في ارتفاع كلف المعيشة، واضطرت الشركات إلى امتصاص جزء من الصدمة عبر تقليص الهوامش أو الاعتماد على المخزونات، لكن كما حذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن الأثر الحقيقي لتلك الرسوم لم يظهر بعد بالكامل.
منظمة التعاون الاقتصادي تحذر ضمن أحدث تقاريرها أمس الثلاثاء، أكدت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الآثار الكاملة للرسوم الجمركية الأميركية لا تزال في طور التراكم، محذرة من أن استمرار هذه السياسات قد يؤدي إلى تراجع الاستثمارات وانخفاض في حركة التجارة العالمية.
وأشار التقرير إلى أن شركات عدة خزنت البضائع قبل فرض الرسوم، مما ساعد في تأخير التأثير السلبي، ولكن مع نفاد المخزون تدريجاً، يتوقع أن تظهر النتائج السلبية بصورة أوسع خلال عامي 2025 و2026.
وعلى رغم أن المنظمة أبقت على توقعات النمو العالمي لعام 2025 عند 3.2 في المئة، فإنها حذرت من أن أي تصعيد إضافي في السياسات الحمائية قد يؤدي إلى تدهور أكبر في المؤشرات الاقتصادية.
في النهاية، تشير جميع المؤشرات إلى أننا بدأنا نرى التأثير الفعلي للسياسات الجمركية، ولا سيما تلك التي اتخذت خلال الأعوام الأخيرة تحت شعارات الحماية الاقتصادية والسيادة التجارية، ومن الواضح أن الاقتصادات الناشئة بدأت تتأثر فعلياً، كما هي الحال في الهند، وأوروبا تظهر علامات ضعف في الزخم والنمو وسط تفاوت كبير بين أعضائها، بينما الولايات المتحدة تواجه تباطؤاً وتحديات تضخمية، على رغم محاولات التخفيف المالي، وزادت التحذيرات الدولية في شأن المستقبل القريب إذا استمرت الرسوم الجمركية.
وقد لا تكون الرسوم السبب الوحيد لتباطؤ الاقتصاد العالمي، لكنها بلا شك أصبحت عاملاً فاعلاً لا يمكن تجاهله في المشهد الاقتصادي العالمي.
وإذا استمرت هذه السياسات من دون تخفيف أو مراجعة، فإن آثارها قد تمتد إلى مستويات أعمق وأكثر استدامة، لتشكل ما يمكن تسميته "ركود الرسوم الجمركية".
اندبندنت عربية
|