منذ بدء عملية الانتقال
السياسي، تواجه سوريا أزمة سيولة حادة بسبب نقص الأوراق النقدية المادية
واضطرابات أوسع في تداول العملة المحلية.
تحتاج
سوريا التي يهدد الجفاف أمنها المائي والغذائي ما بين 200 إلى 300 مليار
دولار كحد أدنى لإعادة الإعمار بحسب متخصصين، بينما تقدر الأمم المتحدة أن
سوريا في حاجة إلى 400 مليار دولار، وتتطلب هذه الكلف استقرار الأمن وعودة
اللاجئين ورفع العقوبات.
أما وزير الاقتصاد والصناعة
السوري نضال الشعار فيرى أن سوريا يمكن أن تستوعب تريليون دولار في مرحلة
إعادة البناء، مركزاً على وفرة الفرص الاستثمارية التي يمكن أن توفرها
سوريا في كل القطاعات.
ويرى باحثون سوريون أنه من الأفضل التوجه
نحو التركيز على بناء الاقتصاد المدمر والاهتمام بتوفير البنى التحتية
وانتشال القطاعات الإنتاجية من مشكلاتها والدفع بها إلى الواجهة، معتقدين
أن تحريك العمل والإنتاج سيكون من نتائجهما الانتقال إلى بناء المدن
والمناطق المدمرة بطريقة أكثر عائدية وفائدة، وتجنيب البلاد الوقوع في
مشكلات اقتصادية لا رجعة عنها، فالصراع المستمر منذ 14 عاماً دمر الاقتصاد
السوري، إذ انكمش الناتج المحلي الإجمالي تراكمياً بأكثر من 50 في المئة
منذ عام 2010، وانخفض نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي إلى 830 دولاراً
أميركياً فحسب بحلول عام 2024، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى الدولي للدول
منخفضة الدخل. ويعاني واحد من كل أربعة سوريين الفقر المدقع، بينما يعيش
ثلثاهم تحت خط الفقر الأدنى للدخل المتوسط.
الناتج المحلي لن يتجاوز 19.5 مليار دولار في 2023
من جانبه، يقول الباحث الاقتصادي السوري فادي عياش "منذ بدء عملية الانتقال السياسي، تواجه سوريا أزمة
سيولة حادة بسبب نقص الأوراق النقدية المادية واضطرابات أوسع نطاقاً في
تداول العملة المحلية"، مشيراً إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لعام 2011
بلغ 67.54 مليار دولار، لافتاً إلى أن حصة الفرد بلغت 2952 دولاراً بمعدل
نمو 2.9 في المئة (مقبول لكنه غير كاف لتحقيق التنمية)، بينما تراجع خلال
عام 2023 إلى 19.99 مليار، وحصة الفرد قرابة 847.37 دولار مع معدل نمو سالب
(1.2) في المئة.
وأكد أنه يمكن تقدير قيمة الناتج المحلي
الإجمالي لعام 2024 بما لا يتجاوز 19 مليار دولار، مع انكماش بواقع 1.5 في
المئة بحسب تقديرات البنك الدولي حول التقييم المالي الكلي لسوريا عام 2025.
وأضاف "بحسب البنك الدولي، فإن نمو الناتج
المحلي الإجمالي هذا العام سيكون بنحو واحد في المئة، وبذلك لا يتوقع أن
يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي 19.5 مليار دولار، في ظل استمرار التحديات
الأمنية ونقص السيولة وتعليق المساعدات الخارجية"، متوقعاً أن يوفر تخفيف
العقوبات بعض الإمكانات الواعدة، إلا أن التقدم لا يزال محدوداً، إذ لا
تزال الأصول المجمدة وتقييد الوصول إلى الخدمات المصرفية الدولية يعوقان
إمدادات الطاقة والمساعدات الخارجية والدعم الإنساني والتجارة والاستثمار.
الاقتصاد السوري أمام ثلاثة سيناريوهات
ووضع عياش في حديثه إلى "اندبندنت عربية"
ثلاثة سيناريوهات للتنبؤ بمتغيرات المرحلة المقبلة وتأثيرها في الاقتصاد
السوري والناتج المحلي الإجمالي، مشيراً إلى أن السيناريو الأول متفائل
ومستقر، بينما يرى أن السيناريو الثاني في حال عدم استقرار طويل الأمد، أما
الثالث وهو الأسوأ فهو سيناريو الحرب واستمرار الصراع.
وحول سيناريو المرحلة الانتقالية المستقرة
المتفائل توقع عياش نمو الاقتصاد السوري بوتيرة سريعة، وتنفيذ إصلاحات
مؤسساتية وتوفير المساعدات الدولية الكافية، ويتوقع أيضاً أن يسجل الناتج
المحلي الإجمالي نمواً سنوياً بنسبة تقارب 13 في المئة على مدى الأعوام
الخمسة المقبلة (2025 - 2030)، ومع ذلك لن يصل الناتج خلال عام 2030 إلا
إلى 80 في المئة من مستواه قبل الحرب، أي قرابة 55 مليار دولار، قائلاً
"سيحتاج إلى نمو بنسبة خمسة في المئة سنوياً لستة أعوام إضافية (2031-2036)
لبلوغ الهدف.
وتابع "لن تستعيد حصة الفرد من هذا الناتج
إلا 50 في المئة من مستواها قبل الحرب، وستحتاج إلى 11 عاماً إضافية (2030
- 2041) بمعدل نمو سنوي يبلغ 7.5 في المئة، وهو المعدل المطلوب لتحقيق
التنمية، أي ليظهر الأثر التنموي على مستوى الرفاه الاجتماعي".
هذا المعدل بحسب وجهة نظر عياش يحقق شرط
التنمية بأن يتجاوز ضعفي معدل النمو السكاني، وفي هذا السيناريو، سيبقى
أكثر من ثلث السكان يعيشون على أقل من 2.15 دولار أميركي في اليوم.
أما في حال تحقق سيناريو عدم الاستقرار
طويل الأمد، فيتوقع عياش أن غياب خريطة طريق موحدة للانتقال والتعافي
وإعادة البناء والإعمار سيترك البلاد في حال ضياع، مما يزيد من معدلات
البطالة وتزايد الاعتماد على المساعدات الإنسانية، وهذان تحديان كبيران،
مما يؤدي إلى تعميق حال الركود الاقتصادي، بالتالي من المتوقع أن تظل
معدلات النمو السنوية أقل من ثلاثة في المئة بين عامي 2025 و2030، وسيبقى
الاستثمار في سوريا وفقاً لهذا السيناريو ضمن حدود ثلاثة في المئة من
الناتج المحلي الإجمالي، في ظل التقدم المحدود في معالجة الأسباب الجذرية
للتحديات الاقتصادية والاجتماعية.
مشيراً إلى أنه في حال الافتقار إلى
استراتيجية إعادة إعمار متماسكة، ستكون كثير من المناطق متخلفة ومهمشة، مما
سيخلق عدم تساوٍ في جني ثمار النمو الاقتصادي الضئيل أصلاً، ويؤدي ذلك إلى
خلل تنموي على المستوى الكلي، مما قد يسهم في نشوء صراعات جديدة.
السيناريو الأسوأ؟
الى ذلك، حذر الباحث عياش من السيناريو
الأسوأ الذي وصفه بأنه سيناريو الحرب، إذ سيؤدي إلى تفاقم الصراع والتفكك
ومزيد من الانكماش، وسيكون التعافي بعيد المنال مع توقع الدمار الواسع
النطاق للبنية التحتية وتثبيط جهود إعادة الإعمار المنسقة، بالتالي من
المتوقع في هذه الحال أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 19 في المئة خلال عام 2025
وسبعة في المئة عام 2026، وسيستمر في الانكماش عام 2030، مع العلم أنه قد
تتوسع هذه الخسائر إذا اشتد العنف وتوقف النشاط الاقتصادي.
عياش أوضح في حديثه أن الحكومة الجديدة
داخل دمشق أعلنت عن مجموعة من التدابير لتوحيد السياسات الاقتصادية الكلية
والمالية والنقدية للبلاد، مع التركيز على الحوكمة الرشيدة للمال العام
والإدارة المالية والنقدية السليمة، وبذل جهود لجذب الاستثمارات الأجنبية
الضرورية والتزامات المساعدات لدعم الانتعاش الاقتصادي، إلا أن التوقعات
المتعلقة بنمو الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي السوري تتعلق بمتغيرات عدة
لا يمكن تحديدها بدقة.
وأكد ضرورة بناء السيناريوهات المتعددة
القادرة على مواجهة المتغيرات والتحديات الكبيرة التي تتطلبها مرحلة
التعافي وبعدها إعادة البناء والإعمار، مع ضرورة تحديد أولويات تنموية
تتناسب مع كل مرحلة، فالأهم من التسميات هي الآليات والنتائج المتوقعة
منها، فمهما كانت المنهجية الاقتصادية المعتمدة نحتاج أن تكون قادرة على
تحقيق اقتصاد متنوع ومتكامل أساسه الإنتاج بمختلف صوره (المادي الزراعي
والصناعي والتقني) والتصدير، لتحقيق التنمية الذكية التي تبدو البلاد بأمس
الحاجة إليها.
ليبقى
السؤال الأهم، هل سينجح الاقتصاد السوري من معاكسة الاتجاهات ودرء الضغوط
التضخمية وتدهور الليرة إذا لم تأت المساعدات الموعودة بها سوريا؟ اندبندنت عربية
|