سيرياستيبس :
يمثل قرار وزارة الخزانة الأميركية برفع لوائح العقوبات عن سوريا بالتوازي مع عودتها لنظام "سويفت" العالمي تحولاً جوهرياً لا يقتصر على الجانب السياسي وحسب، بل يحمل في طياته انعكاسات اقتصادية واسعة ومهمة، فهو يشكل باباً واسعاً أمام عودة الاستثمارات العربية والأجنبية لسوريا وإعادة ربط اقتصادها بالمنظومة المالية العالمية بعد عزلة طويلة.
ورفع العقوبات سيمنح سوريا فرصة حقيقية لإعادة هيكلة قطاعاتها الإنتاجية والمالية والمصرفية والسياحية والخدمية مع إمكان الاستفادة من التمويل الخارجي الذي سيساعدها في إطلاق مشاريع إعادة الإعمار من دون قيود وعراقيل وبصورة تستهدف حاجاتها الملحة في ظل الدمار الكبير التي تعانيه.
ويرى متخصصون أن عودة سوريا للاقتصاد العالمي ستعزز مكانتها في المنطقة، مما سينعكس على اقتصادات الدول المجاورة لجهة تنشيط التبادل التجاري وتنشيط الترانزيت ومد خطوط نقل الغاز والنفط ضمن تحالفات استراتيجية جديدة قد تغير خريطة النقل ليس على مستوى المنطقة وإنما على مستوى العالم أيضاً، مما يجعلنا أمام رؤية اقتصادية لدول المنطقة سواء لجهة تعاونها وتعاملها مع بعضها بعضاً أو لجهة موقعها بالنسبة إلى العالم، خصوصاً في ما يتعلق بتفعيل طرق التجارة الإقليمية والدولية بما توفره من قرب واختصار الكلف.
وإقدام مكتب مراقبة الأصول الأميركي "أوفاك" أيضاً على إزالة سوريا من لائحة العقوبات سيسمح للشركات الأميركية بالتعامل في السوق السورية من دون أية مشكلات، إذ من المعروف أن هناك شركات أميركية في مجال الطاقة وتكنولوجيا المعلومات أبدت اهتماماً بالسوق السورية والاستثمار فيها، وأن مستثمرين سوريين- أميركيين شكلوا تحالفاً للاستثمار فيها.
سوريا غير جاهزة حالياً لاستيعاب الاستثمارات المعلنة
ويرى المحلل المالي السوري عبدالحميد القتلان أنه لا بد لدمشق من أن تتجه نحو الانفتاح على الأسواق العالمية، وهذا متاح حالياً بعد رفع العقوبات الذي أعلنه مكتب مراقبة الأصول الأميركية "أوفاك".
وقال لـ"اندبندنت عربية" إن "انعكاسات رفع العقوبات مهمة جداً محلياً وعلى مستوى المنطقة ككل، وإذا ما سارت مع التغييرات السياسية وإعادة تشكيل المنطقة، فنحن أمام رؤية جديدة تماماً للمنطقة سيكون الاقتصاد والنقل فيها حجر زاوية"، لكنه أعرب عن اعتقاده بأن الاستفادة حالياً وضمن الظروف القائمة، خصوصاً في الداخل السوري، محدودة من هذا الانفتاح وتحتاج إلى ترتيبات داخلية واسعة جداً، ولا سيما مع ضعف البنى التحتية وعدم قدرتها على استيعاب التحولات بصورة مباشرة، لذلك فإن مرحلة البناء وتجهيز البنى التحتية يجب أن تكون سريعة كي تبدو البلاد جاهزة وقادرة على الاستفادة والتعامل مع رفع العقوبات بالصورة الأفضل، مع ما يمكن أن يقدمه ذلك من نشاط استثماري وتحرك في القطاعات المختلفة تجارية وصناعية وسياحية وصولاً إلى تحسين معيشة المواطن.
وفي ما يخص الاستثمار، أوضح القتلان أن "سوريا حالياً غير جاهزة لاستيعاب كل تلك الاستثمارات التي أعلن عنها أخيراً"، مؤكداً أن البدء بتنفيذ الاستثمارات سيأخذ وقتاً وتراتبية يفرضها تأمين ظروف تنفيذها بالصورة المطلوبة،
إلا أن البلاد قد تبدو مستعدة لاستيعاب الاستثمارات في مجال الطاقة، ويمكن المضي نحو استثمارات عقارية وربما سياحية وخدمية في المرحلة الأولى، إذ يمكن استيعاب قسم منها حتى إن كانت البنية التحتية ضعيفة.
وبرأيه، فإن دخول بعض الاستثمارات قد يسهم في تحسين البنى التحتية، أما الاستثمارات الصناعية، خصوصاً الكبرى منها فسوريا غير جاهزة لها حالياً بسبب عدم توافر الطاقة وارتفاع كلفة الإنتاج والخدمات البنكية وارتفاع أسعار الإقراض والتمويل، مما سيشكل عائقاً محسوساً أمام تدفق الأموال والاستثمارات إلى القطاعات الإنتاجية.
وبصورة عامة قد يكون كل ذلك مرحلياً ويمكن أن تتخطاه البلاد إذا ما تمكنت الحكومة من وضع خطة عمل للأعوام الـ10 المقبلة في الأقل، تبيّن خلالها الأولويات التي ستعمل عليها وتؤدي لاحقاً إلى تأمين بيئة عمل قادرة على تلبية متطلبات الاستثمار والأعمال بمختلف اتجاهاتها وقطاعاتها.
القتلان اعتبر عودة سوريا لنظام "سويفت" أمراً جيداً ومهماً ويؤكد الانفتاح على سوريا، بالتالي سيتسبب في توفير قدر كافٍ من الراحة والاطمئنان لدى المستثمرين والشركات ويشجع على الدخول إلى سوريا والعمل فيها من دون خوف، خصوصاً أن هناك فرصة استثمارية كبيرة ومغرية فيها، مشدداً على ضرورة استثمار الوقت وإدارته بصورة جيدة، فكلما كانت الحكومة السورية قادرة على التعامل مع الوقت بكفاءة عالية استطاعت أن تفرض الانفتاح كأمر واقع.
وأشار إلى ضرورة أن تسرع المصارف السورية في إيجاد بنوك مراسلة لها في مختلف دول العالم، خصوصاً تلك التي يمكن أن تجمعها معها علاقات اقتصادية وتجارية واستثمارية متطورة، فضلاً عن السيطرة على موضوع توافر العملة الأجنبية سواء من خلال بنائه كاحتياط لدى المصرف المركزي السوري أو لجهة توافره لدى المصارف العاملة لتلبية حاجاتها وحاجات التمويل، متمنياً أن يكون هناك تركيز على الإنتاج والمشاريع التي تدر دخلاً دائماً وكافياً وتسهم في حل مشكلة البطالة، إضافة إلى امتلاكها قابلية الاستدامة والتطور والمواكبة.
ولفت في هذا السياق إلى أن تمكن البنك المركزي السوري من إنجاز اتفاقات مع بنوك مراسلة في تركيا وإيطاليا والسعودية وقطر يشكل خطوة جيدة حالياً، مستدركاً "لكن يجب أن يواكب ذلك تطوير في الخدمات البنكية، وقبلها في القوانين الناظمة للعمل البنكي بصورة تسهل التداول والدفوعات وتشجع على تدفق الاستثمار وتسهل التحويل من سوريا إلى خارجها وبالعكس".
ارتفاع كلف الإنتاج المعضلة الكبرى
ويقول القتلان "الآن وإذا ما دخلنا في تفاصيل عمل بعض القطاعات كالاستيراد مثلاً وعلى رغم أن السوق السورية بحاجه لكثير من السلع والخدمات، وأصبح من السهل استيرادها، فإن المشكلة تكمن في القوة الشرائية لغالبية المواطنين السوريين التي لا تزال محدودة، بالتالي يجب العمل على رفع دخل المواطن السوري أولاً، وهذا لن يتم إلا من خلال إتاحة المجال لتنفيذ المشاريع الاستثمارية مع تركيز على مشاريع الطاقة والمشاريع الإنتاجية التي تخلق حلقات عمل متعددة تستفيد منها شريحة واسعة من الناس، مما يخلق دوراناً سليماً للمال ويساعد لاحقاً في تنفيذ مشاريع تعتمد أصلاً على مدى قوة القدرة الشرائية للناس، أما من ناحية التصدير فما يمكن أن تصدره سورياً حالياً هو المنتجات النسيجية والجلدية، وبعض الصناعات البسيطة، لكن القدرة على المنافسة في الأسعار والجودة مع الدول المجاورة التي تنتج منتجاتنا نفسها تبدو محدودة جداً، إذ إن كلفة الإنتاج في سوريا لا تزال مرتفعة بسبب عدم توافر الطاقة والمصانع لا تزال تحصل على الكهرباء بسعر مرتفع جداً، بالتالي من الصعب التنافس في الأسعار مع الدول المجاورة، وسيكون التصدير محدوداً أيضاً، وإذا تحدثنا عن تصدير الخضراوات والفواكه التي تشتهر بها سوريا، فقد تراجعت بسبب الجفاف وغداً سيظهر تأثير الحرائق، مما يؤكد أن البلاد في حاجة إلى خطط عظيمة لرفع قطاعاتها الإنتاجية واستعادة حضورها في الأسواق المحلية والتصديرية".
وأضاف "مرحلياً فإن تأثير رفع العقوبات في الأسواق وفي المواطن يبدو محدوداً، مما يؤكد ضرورة العمل وفق استراتيجيات وخطط عالية المستوى وقابلة للتحقق في ضوء الإمكانات، فضلاً عن الاستثمار في نقاط القوة والفرص التي تمتلكها البلاد أو يمكن أن تخلقها مرحلة إعادة الاعمار"، قائلاً "الآن ومع رفع العقوبات والعودة لنظام ’سويفت‘، بتنا نستطيع الحديث عن نصف الكأس الممتلئ الذي يمكن أن يكون القاعدة للانطلاق نحو العمل بحثاً عما يملأ النصف الفارغ".
عودة الاعتبار للنظام المصرفي السوري
من جانبه يوضح رئيس غرفة تجارة دمشق عصام الغريواتي أن الجهاز المصرفي السوري كان محروماً من نظام "سيوفت"، وكذلك الاقتصاد السوري طوال الفترة الماضية، مما كان يسبب مشكلات مصرفية ومالية لا حدود لها وتنعكس سلباً على جميع عمليات الاستيراد والتصدير والتحويلات المالية والاعتمادات المستندية التي كانت تنفذ بطرق بدائية غير مضمونة ومكلفة.
وأضاف أن "الآن ومع رفع العقوبات انتهى هذا الحظر وعملياً تمت أول عملية تحويل مالي عبر نظام ’سويفت‘ منذ نحو شهرين مع بنك إيطالي"، مشيراً إلى أن التحويلات عبر هذا النظام من بنوك عربية وأجنبية من دول فاعلة ومهمة وذات وزن اقتصادي كبير بدأت تتوالى، مما يحمل دلالات على عودة الاعتبار للنظام المصرفي السوري وفي مقدمتها البنك المركزي، وعودة الثقة للاقتصاد السوري الذي أصبح اقتصاداً حراً تنافسياً غير خاضع للعقوبات ويجهد لأن يستقطب الاستثمارات العربية والأجنبية ويجهد لتطوير وتقوية عمليات الاستيراد والتصدير وتسديد القيم عبر الجهاز المصرفي السوري بعدما تحرر من القيود وأصبح بعيداً من الفساد والمحسوبيات والعمليات المشبوهة.
وأكد أن "الخطوة الجديدة تحمل كثيراً من التفاؤل وستتبعها خطوات أخرى على الصعيدين المالي والنقدي وبالنسبة إلى الاندماج الكامل مع النظام المالي والمصرفي العالمي، وستمنح القطاع الخاص السوري ميزات جديدة في تحسين الكفاءة والتنافسية وتقليل الأخطار".
رفع العقوبات فتحة للأمل لا أكثر
ووصف الاقتصادي بسام صباغ رفع العقوبات عن دمشق بـ"الفرصة الكبيرة"، خصوصاً أنها تأتي في ظرف تاريخي يعاد فيه تشكيل المنطقة سياسياً واقتصادياً، قائلاً إن "سوريا ستتمكن أخيراً من نفض غبار الحرب والعقوبات وتستعد للسير نحو مستقبل أفضل".
وأوضح صباغ في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن سوريا تعاني جملة من التحديات التي عليها التعامل معها سريعاً ومن دون أي تأخير مثل ضعف البنية التحتية والكهرباء شبه المحدودة، وضعف القطاع المصرفي الذي يعاني بنية تحتية قديمة ومتهالكة وفقدان الثقة به وابتعاده من دوره في التمويل، وأيضاً النظام المالي في سوريا يحتاج إلى تحسين الحوكمة وتعزيز الملاءة الرأسمالية، مشيراً إلى أن جاهزية سوريا لاستيعاب الاستثمارات في ظل ضعف البنية التحتية يحتاج إلى البدء بإصلاحات مالية مهمة في مقدمتها تنفيذ سياسات تستهدف التضخم وإنجاز الانتقال سريعاً نحو التحول الرقمي في الإدارات الحكومية وتعزيز الشراكات بين القطاعين الخاص والعام وتعزيز استقلالية البنك المركزي وتحسين جودة البيانات المالية وإصلاح الديون وتحويل سوق دمشق للأوراق المالية إلى منصة لجذب الاستثمارات، بخاصة مشاريع البنى التحتية الضخمة التي تحتاج إليها البلاد بصورة ملحة.
ويرى صباغ أن دمشق تبذل جهوداً كبيرة من أجل إنجاز نهضتها الاقتصادية، مستدركاً "لكن الطريق طويل ولا يخلو من صعوبات كبيرة"، واعتبر أن رفع العقوبات بمثابة فتحة للأمل لا أكثر.
فرصة اقتصادية
من جانبه يرى المحلل الاقتصادي عبدالرحيم النعمة أن الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي منحا سوريا فرصة كاملة للتحرر من واقعها المكبل بالعقوبات والدمار وتراجع كامل للمؤشرات الاقتصادية وتمكينها من بناء اقتصادها المدمر واستعادة دورها في المنطقة عبر منحها فرصة حقيقية لإعادة الاعمار والبناء، مشيراً إلى أن ذلك يأتي في إطار ترتيب سياسي كامل للمنطقة، بحيث لا تبدو الترتيبات الاقتصادية أقل أهمية.
وأوضح أن "المنطقة ومن ضمنها سوريا تمتلك مقومات كبيرة على مستوى التجارة العالمية وتمر عبرها أقصر الطرق وأقلها كلفة، فضلاً عن ملاءمتها لمد خطوط نقل الغاز وحتى النفط، وصولاً إلى موانئ التصدير على الساحل السوري"، لافتاً إلى أن امتلاك سوريا لمقومات الانطلاق والإصلاح لم تنضج بالصورة الكافية، وهناك أمور عدة لا بد من إنجازها على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسة وحتى العسكرية ربما، وأردف أن رفع العقوبات عن سوريا الذي أعلنته وزارة الخزانة الأميركية أخيراً يعد خطوة على طريق تسهيل التغييرات المطلوبة، قائلاً "علينا أن نتخيل حجم التغيير الذي يمكن أن تحدثه سوريا في المنطقة على المستوى التجاري ونقل الغاز والنفط أو حتى على مستوى الاستثمار وإمكان تحولها إلى مركز استقطاب مالي واستثماري، ولكن كل ذلك مرتبط بمدى تطور الظروف السياسية في المنطقة ككل وبمقدار تحقق الاستقرار الأمني والسياسي في الداخل السوري وإنجاز الحلول للملفات الساخنة".
اندبندنت عربية