تعيش أوساط القرار الرسمي والأوساط الأكاديمية في سوريا هذه الأيام، حالة تنازع غير مسبوقة بشأن خيارات تتعلق بمصير القطاع العام في البلاد.
فمن أوصاف تشبه الغزل، طالما أطلقتها السلطة للقطاع من قبيل ” قاطرة التنمية..قطاع الريادة التنموية”، إلى تهديدات ” نقطع اليد التي تمتد للقطاع العام”..وعبارات وعيد درج على استخدامها المتعصّبون للحقبة الإشتراكية من أمثال عبد القادر قدوره العضو القيادي المزمن في حزب البعث، لتأكيد الحرص الشديد على ما أسموه حينها ” مكتسبات الطبقة العاملة”.
إلى تقليب الخيارات الكئيبة عن مصير ” الرجل العجوز” الذي ينتظر ترقباً لمصيره بين الإنعاش أو إطلاق رصاصة الرحمة، لا سيما في سياق صخب وجلبة في الحديث عن الاقتصاد الحرّ كنهج أعلنت عنه الحكومة الجديدة بمجرد سقوط نظام بشار الأسد.
جرأة غير مسبوقة
لم يكن السوريون بمختلف انتماءاتهم الطبقيّة يتوقعون تلك الجرأة التي ظهر فيها المستشار التنفيذي لوزير الاقتصاد والصناعة الدكتور مازن ديروان، وهو يطالب بالإجهاز على القطاع العام، فرجل الأعمال الصناعي امتلك موقعاً استشارياً ” استثمره”، وهو صاحب الخلفيّة الطبقيّة المتأذية من حكم البعث، ومن مجريات التأميم والتحويل الإشتراكي التي بدأت منذ زمن الرئيس جمال عبد الناصر، واقتضت قسر القطاع الخاص على الانكفاء والهروب بعد مصادرة معظم ممتلكاته.. ليكون – ديروان – صاحب الصوت الأنسب ليعلن رؤية فهمها كثيرون على أنها تشفّ من ستة عقود من الزمن سبقت ليفصح أن ” على الحكومة الخروج الكامل من اللعبة الاقتصادية التي أنهكت ميزانيات الدولة و هدرت مواردها الوطنية على مدى اكثر من ٦٥ سنة”، ويعزز رؤيته بما يراه واقعاً : ” عندما يخطىء القطاع الخاص، يدفع ثمن خطئه بنفسه و يصحح الخطأ بأسرع وقت إما بتغيير منهجه أو بإنهاء أعماله لوقف النزيف.. بينما يتابع القطاع العام النزيف إلى مالانهاية تحت شعارات شتى لا تحقق إلا مزيداً من الخسائر”.
و يجزم ديروان بأنه يجب بيع القطاع العام برمته.. لكنه يتساءل كيف و متى و بأي سرعة لكي تحصّل الدولة على أعلى عوائد من هذا البيع و للتعامل مع النتائج الاجتماعية لهذا البيع بالشكل الأمثل؟.. ويطالب بعدم إضاعة الوقت و الجهد في محاولات إثبات المثبت على مدى ٦٥ سنة و في تجارب جميع دول العالم التي أرادت النجاح و الخلاص من الفقر و الفساد. القطاع العام “بالمبدأ” لا يمكن أن يكون مجدياً و الفكر الذي يدعو لأن تقوم الدولة بالإنتاج هو فكر عفا عليه الزمن منذ زمن..
الخاص متهم بالفساد
إلّا أن أصواتاً كثيرة خرجت للرد على مستشار الوزير، وبلهجة حادة أقرب إلى ” التكفير الاقتصادي”..
ومن هؤلاء الاقتصادي محمد بكر، الذي كتب متسائلاً.. هل يوجد دولة في العالم لا يوجد بها قطاع عام؟
وهل يعرف السيد المستشار ماذا قدم القطاع الخاص للخزينة العامة للدولة ؟
هل يعرف السيد المستشار أن سبب خسائر القطاع العام هي الدولة السابقة و ليست الحكومة ؟
هل قارن بين شركتين متماثلتين واحدة قطاع عام و الأخرى قطاع خاص للضرائب و الرسوم المسددة من كلتا الشركتين؟
هناك أسئلة كثيرة قبل أن نلقي اللوم على القطاع العام.
وأضاف: صحيح أن القطاع العام تحول إلى مزرعة شخصية للأقرباء و المنتفعين من السلطة البائدة و لكن لم يكن القطاع الخاص أفضل و أقل فساداً و إفساداً فقد كان يتهرب من دفع الضرائب و يقدم بيانات وهمية و لديه أكثر من دفتر محاسبي و كذلك التهرب الجمركي و ادخال مواد بدل أخرى و التلاعب بالكميات و البنود الجمركية وكان المخلصين و الكشافين يعملون لمصلحته كما أنه قام باستنزاف القطع الاجنبي الذي احتكره القطاع الخاص و من ورائهم المسؤولين في الدولة.
ويتهم بكر القطاع الخاص بارتكابات مشهودة: ” من خلق الإفساد و نماه و شجعه هو القطاع الخاص أما القطاع العام فقد تلقى من الجمل أذنه مقابل انتفاع القطاع الخاص بمليون ليرة كان موظف يحصل على بالكثير 10 ليرات.
” تكفير اقتصادي”
أما الخبير الاقتصادي عامر شهدا، فكان رده حادّاً جداً، وكتب في منشور له على فيسبوك: مستشار لوزير الاقتصاد يدعو الى تدمير البلاد والعباد.. يطلب بيع القطاع العام وليس اصلاحه وخصخصته، كما يطلب كف يد الدولة عن تدخلها بالاقتصاد .
وذهب شهدا أبعد من ذلك ليعرب عن ظنه بأن هذا المستشار مؤمن بوصايا واشنطن العشرة التي أثبتت فشلها، و أنه – المستشار- لا يملك ثقافة اطلاع على تجارب الدول التي باعت القطاع العام ” يعتبر الموضوع بيع زوج من الأحذية”.
العصا من المنتصف
و كان الخبير الاقتصادي فادي حمد، أكثر اعتدالاً في طرحه وأمسك العصا من المنتصف، فهو يرى الخيار إما بالاستثمار النافع للمنشآت، أو بإنشاء قطاع مشترك بين الخاص والعام تحت إشراف الحكومة بعد الموافقة على الخطط الخاصة في الإنتاج من الشريك، وتقديم التسهيلات اللازمة ضمن عقد قابل للتجديد للشريك في حال التفوق والنجاح والتقدم.
بيع بصيغة تشاركية
يُذكر أن نظام بشار الأسد كان قد سجّل عدّة محاولات لخصخصة القطاع العام، ووقع الاختيار على آخر فريق حكومي – حكومة الجلالي – ” لم يمض أكثر من شهرين على مكوثها في السلطة حتى سقط النظام كاملاً”، وكان قد وقع الاختيار على الشركات الرابحة لخصخصتها ” تاميكو للأدوية..وشركة تعبئة المياه المعدنية ويتبع لها خمسة معامل” لتكون الشركتان بدية مشوار ” الخصخصة الذكية” بلبوس تشاركي.
وقبلاً كان الأسد قد أصدر قانوناً تحت الرقم 3 للتشارك بين القطاع العام والخاص في استثمار موجودات القطاع العام .
وكانت كلها حركات التفاف على ” القطاع العام” و ما زعمت حكومات البعث بأنه ثوابت لا يجوز الاقتراب منها.
صدمة
لكن مابدنا واضحاً أن موجودات القطاع العام هي “بضاعة كاسدة”بنظر أصحاب رؤوس الأموال التي تتطلع إلى سوريا..
والمستثمر السوري خائف كعادته..والخليجي يبحث عن استثمارات ريعية لا إنتاجية، وكما نعلم أن القطاع العام المعروض للتخلي هو قطاع إنتاجي – صناعي بالدرجة الأولى، ولم يتقدم أحد لاستثمارها.
على المحك
بقي السؤال عن المتمولين السوريين ومنهم مازن ديروان “صاحب الفكرة، الذي اختار الاستثمار في تركيا..لماذا لم يتقدموا بعروضهم للإستثمار وفقك الرؤية التي تم الإفصاح عنها..أم أن الكلام لمجرد الاستعراض وتسجيل الحضور المطلوب في هكذا مراحل انتقالية؟
الخبير السوري