لطالما
استمرت العلاقات بين الرياض وواشنطن قوية على رغم التباين في وجهات النظر
حول قضايا إقليمية ودولية حساسة، فإنه في ملفات مثل المناخ والطاقة
والتجارة والمساعدات برزت بوضوح الفروق الجوهرية بين السعودية والولايات
المتحدة.
الالتزام السعودي مقابل التراجع الأميركي
لفترات طويلة كانت الرياض تحت النقد
العالمي بسبب اعتمادها الكبير على الوقود الأحفوري، إلا أن إعلان ولي العهد
الأمير محمد بن سلمان في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 عن مبادرة "السعودية
الخضراء" مثَّل نقطة تحول في سياسات السعودية البيئية، وكذلك مبادرة الشرق
الأوسط الأخضر وتعزيز عاصمتها بمبادرة "الرياض الخضراء"، إلى جانب استضافة
مؤتمر الأطراف الـ16 لاتفاق الأمم المتحدة لمكافحة التصحر "كوب 16" للمرة
الأولى في الشرق الأوسط العام الماضي، واستطاعت خلاله حشد الجهود الدولية
لتقديم أكثر من 100 مبادرة، والحصول على أكثر من 12 مليار دولار كتعهدات
تمويل من المنظمات الدولية الكبرى، مما أدى إلى تعزيز دور المؤسسات المالية
والقطاع الخاص في مكافحة تدهور الأراضي والتصحر والجفاف.
وحول الانبعاثات والطاقة النظيفة أكد
تقرير نشره كل من نيكولاس هاوي وجيم كرين في "Baker Institute for Public
Policy" التابع لجامعة رايس في 2022 أن السعودية وضعت أهدافاً طموحاً،
أبرزها الوصول إلى الحياد الصفري للكربون بحلول عام 2060، كما يتطلع البلد
الخليجي لزيادة مساهمة الطاقة المتجددة إلى 50 في المئة من مزيج الكهرباء
بحلول عام 2030، وأشار التقرير إلى "أن الرياض ترى المناخ جزءاً لا يتجزأ
من أمنها الاقتصادي والطاقة".
وعلى رغم كون السعودية
من أكبر منتجي النفط في العالم فقد خصصت أكثر من 150 مليار دولار لمشاريع
الطاقة المتجددة، منها "سدير" و"نيوم"، وأبرمت اتفاقات مع دول مثل الصين
وكوريا الجنوبية لتطوير تقنيات احتجاز الكربون.
انسحاب ثم عودة وارتداد جديد
على العكس، تعاني الولايات المتحدة تقلبات في سياساتها المناخية، ففي عام 2017 أعلن الرئيس دونالد ترمب
انسحاب واشنطن من اتفاق باريس للمناخ، معتبراً أنه "يقتل الوظائف
الأميركية"، وعلى رغم عودة واشنطن إلى الاتفاق في عهد الرئيس جو بايدن، فإن
هذه العودة لم تترجم إلى التزام فعلي.
وفي تقرير للصحافية كوري شيبارد نشر في
"فاينانشيال تايمز" في الـ29 من أبريل (نيسان) 2024، تم تسليط الضوء على
التناقض بين تصريحات واشنطن وأفعالها، حيث استمرت في تصدير النفط والغاز
بكميات قياسية، كما أشار تقرير آخر في وكالة "أسوشيتد برس" كتبته إلين
نيكماير في الـ10 من مايو (أيار) 2025 إلى انسحاب أميركا مجدداً من صندوق
"الخسائر والأضرار" في الأمم المتحدة ووقف التزاماتها في مؤتمر المناخ
(COP29).
الهيمنة الإنتاجية
تتبع الولايات المتحدة استراتيجية
"الهيمنة الإنتاجية" للطاقة، حيث تركز على التوسع في إنتاج النفط والغاز
داخلياً لتعزيز استقلالها الطاقي، وهو ما يقلل من تأثير منظمة "أوبك+" على
الأسواق العالمية.
وفي تقرير لنائب رئيس شركة "IHS Markit"
دانيال يرغين في "فورين أفيرز" نشر في سبتمبر (أيلول) 2023، تم تأكيد أن
"الولايات المتحدة تحولت من مستورد صافي إلى مصدر صافٍ بفضل ثورة النفط
الصخري".
وعلى رغم ذلك، يعكس تحليل نشرته "واشنطن
بوست" في مارس (آذار) 2025 بقلم ستيفن موفات، تراجع الاستثمارات الأميركية
في الطاقة المتجددة، حيث تباطأت مشاريع الرياح البحرية بسبب خفض التمويل
الفيدرالي.
مزيج طاقي متدرج وتحول استراتيجي
في الجهة المقابلة، تسعى السعودية إلى الحفاظ على موقعها القيادي في سوق النفط، ولكن مع تنويع مصادر الطاقة،
وفق دراسة لـ"معهد أكسفورد لدراسات الطاقة" (2023)، استثمرت السعودية في
مشاريع الهيدروجين الأزرق والأخضر، كما أنها من الدول الأوائل التي تخطط
لتصدير الهيدروجين بحلول 2035.
تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على هيمنتها الاقتصادية العالمية
وفي مقابلة مع صحيفة "فاينانشيال تايمز"
الأسبوع الماضي قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان آل
سعود، "نحن لا نرى تعارضاً بين إنتاج النفط والاستثمار في الطاقة المتجددة،
الأمر يتعلق بتحقيق توازن استراتيجي"، كما دخلت السعودية في مفاوضات
متقدمة مع الولايات المتحدة والصين حول تطوير برنامج نووي مدني، مما أثار
جدلاً في الكونغرس الأميركي.
الهيمنة الاقتصادية على الأسواق
تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على
هيمنتها الاقتصادية العالمية، حيث تركز على زيادة صادراتها إلى الأسواق
العالمية، إضافة إلى تعزيز حضورها في قطاع التكنولوجيا.
وقال الصحافي ستيفن موفات في تقرير نشرته
"واشنطن بوست" في فبراير (شباط) 2025 إن الولايات المتحدة تعمل على تقليص
الاعتماد على واردات الطاقة من الخارج في إطار استراتيجيتها الجديدة، وهو
ما يعكس تحولاً في أولويات السياسة التجارية.
التنوع الاقتصادي
في الجهة المقابلة، تسعى السعودية إلى
تحقيق التنوع الاقتصادي من خلال رؤية 2030، حيث تركز على تطوير قطاعات غير
نفطية مثل السياحة والتكنولوجيا، ووفقاً لدراسة من معهد أكسفورد لدراسات
الطاقة (2024)، استثمرت السعودية بصورة كبيرة في مشاريع مثل مدينة نيوم
التي تهدف إلى جذب الاستثمارات العالمية.
تباين في استراتيجيات الدعم الدولي
منذ بداية ولاية ترمب الثانية في يناير
(كانون الثاني) 2025 شهدت السياسة الأميركية تحولاً جذرياً في ملف
المساعدات، إذ أوقف الرئيس عمل معظم برامج الوكالة الأميركية للتنمية
الدولية (USAID) وسرح آلاف الموظفين، مما أدى إلى تعطيل مشاريع إنسانية
وصحية في أفريقيا وآسيا، بحسب تقارير إعلامية.
في المقابل تعد السعودية من أبرز المانحين الدوليين للمساعدات الإنسانية والتنموية، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة،
وفي عام 2024 صنفت الأمم المتحدة الرياض كأكبر مانح دولي للاستجابات
الإنسانية عند قياس المساعدات كنسبة من الناتج المحلي الإجمال، حيث بلغت
مساهماتها 0.19 في المئة من اقتصادها، متفوقة بذلك على دول مثل السويد
والنرويج.
منسق الأمم المتحدة في السعودية محمد
الزرقاني يقول إن "العالم يشهد حالياً تحولاً في خريطة المساعدات الإنمائية
والإنسانية، وبينما تقوم بعض الدول بإعادة تقييم سياساتها التمويلية، نرى
في المقابل دولاً مثل السعودية تضاعف من حضورها الإنساني، وتستجيب بصورة
متزايدة للأزمات في مناطق مثل غزة والسودان واليمن وسوريا ولبنان".
وتابع الزرقاني قوله "بالنسبة إلينا في
الأمم المتحدة هذه ليست مجرد تحديات، بل فرصة لتعزيز التنسيق بين الجهود
الوطنية والمجتمع الدولي، وضمان أن تصل المساعدات إلى من هم في أمس الحاجة،
وفقاً لأولويات قائمة على الاحتياج والمبادئ الإنسانية"، مضيفاً "نحن نشجع
على حوار بناء بين الشركاء التقليديين والمانحين الجدد، بما يعزز فاعلية
المساعدات ويزيد من أثرها".
وأكد المنسق الأممي "نرى في الدور السعودي
المتنامي فرصة مهمة لتعزيز التضامن العالمي، بقيادة متنوعة وأكثر شمولاً،
والأمر لا يتعلق فقط بتراجع معين من جهة، بل بإعادة تصور التعاون الدولي،
والسعودية تلعب دوراً محورياً في هذا التحول".
منذ بداية ولاية ترمب الثانية في يناير (كانون الثاني) 2025 شهدت السياسة الأميركية تحولاً جذرياً في ملف المساعدات (الأمم المتحدة)
خلاف السياسات التجارية بين الرياض
وواشنطن عبر عنه الأكاديمي المتخصص في المال والأعمال بجامعة الإمام محمد
بن سعود محمد مكني بقوله إن "السعودية في إطار رؤية 2030 تسعى إلى تعزيز
الانفتاح الاقتصادي ودعم التجارة الحرة من خلال تعزيز الشراكات التجارية
الدولية وبناء بيئة جاذبة للاستثمارات، وهذا التوجه يهدف إلى تنويع
الاقتصاد وتعزيز التعاون العالمي. وفي المقابل تتبنى إدارة الرئيس ترمب
سياسة اقتصادية تركز على حماية الصناعات المحلية من خلال فرض رسوم جمركية
على بعض الواردات بهدف تعزيز الاقتصاد الأميركي".
هذا الاختلاف في النهج يعكس أولويات
اقتصادية مختلفة بين الرياض وواشنطن، لكنه لا ينفي إمكان التعاون، لا سيما
أن السعودية بفضل علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، تتطلع إلى
حوار بناء لتعزيز المصالح المشتركة، مثل استقرار أسواق الطاقة وضمان تدفق
التجارة بما يخدم الطرفين، وفق ما ذكر مكني بأن الاختلاف في السياسات
التجارية قد يشكل موضوعاً للنقاش خلال اللقاءات المستقبلية، لكنه ينظر إليه
كفرصة لتعميق الحوار بين الرياض وواشنطن، إذ إن السعودية التي تقدر
الشراكة الطويلة مع الولايات المتحدة، تسعى دائماً إلى إيجاد أرضية مشتركة
تدعم الاستقرار الاقتصادي العالمي.
وتوقع الأكاديمي السعودي أن تركز
المناقشات على سبل تعزيز التعاون التجاري واستكشاف حلول مرنة، مثل
الاتفاقات الثنائية والتعاون المشترك في بعض الملفات، التي تحقق التوازن
بين مصالح البلدين وتخدم السعودية في تحقيق رؤيتها المستقبلية.
وقال مكني "السعودية، بفضل موقعها المحوري
في الاقتصاد العالمي وعضويتها في مجموعة الـ20، تمتلك إمكانات كبيرة للعب
دور بناء في تعزيز الحوار حول القضايا التجارية العالمية، من خلال التزامها
باستقرار أسواق الطاقة ودعم التعاون الاقتصادي، وتستطيع المساهمة في تقريب
وجهات النظر بين الدول، ولا سيما أن معظم الأطراف المتنازعة تثق في
الدبلوماسية السعودية العملية والفعالة".
وأكد المتخصص في المال والأعمال أن هذا
الدور يتماشى مع نهج السعودية الدبلوماسي المتوازن ودبلوماسيتها الموثوقة،
حيث تسعى إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي
العالمي مع الحفاظ على شراكاتها الاستراتيجية، إذ إن الرياض مستعدة لدعم
جهود الحوار التي تخدم المصالح المشتركة على الصعيد الدولي، مع التركيز على
التعاون بدلاً من التنافس.
وحول تغير سياسة المساعدات الإنسانية
لدواعٍ اقتصادية يقول مكني إن السعودية تولي أهمية كبيرة لتقديم المساعدات
الإنسانية للمتضررين من النزاعات، انطلاقاً من مسؤوليتها الإقليمية
والإنسانية، بهدف دعم الاستقرار وتعزيز التضامن الدولي، بصرف النظر عن
التزامات موازنتها الداخلية، وفي المقابل، تتبنى إدارة ترمب الحالية نهجاً
يركز على تحديد أولويات الإنفاق الداخلي، مما أدى إلى تقليص بعض برامج
المساعدات الخارجية لتعزيز الكفاءة الاقتصادية، وهو ما يعتبره البيت الأبيض
شأن أميركي، لكن هذا التباين يعكس اختلاف الأولويات الوطنية، لكنه لا يقلل
من أهمية الشراكة بين البلدين.
ونوه مكني بأن السعودية في السنوات
الأخيرة باتت منتظمة في السياسة العالمية بقدر كبير، ولذلك تتطلع إلى تعزيز
التعاون مع الولايات المتحدة في جميع المجالات، من خلال تبادل الخبرات
والتنسيق في القضايا ذات الاهتمام المشترك، لدعم الجهود العالمية في مواجهة
التحديات السياسية والاقتصادية والإنسانية.
بدوره قال المستشار السابق لوزير الطاقة
السعودي إبراهيم المهنا إن "السعودية تتبع نهجاً مزدوجاً في تعاملها مع
قضايا الطاقة يقوم على التوازن بين الاستدامة البيئية وتعظيم العائد من
الموارد التقليدية"، موضحاً أن الرياض "تسير على خطين متوازيين، أولهما
يتمثل في التحول التدريجي نحو مصادر الطاقة النظيفة مثل الكهرباء والغاز
الطبيعي والطاقة المتجددة، وبخاصة الطاقة الشمسية، ضمن استراتيجية تهدف إلى
تقليل الانبعاثات وتعزيز كفاءة الطاقة".
أما الخط الثاني، بحسب المهنا، فيركز على
"تعظيم الفائدة من النفط، لا باعتباره مجرد مصدر طاقة، بل كرافد اقتصادي
مهم"، مشيراً إلى أن "تحويل جزء كبير من النفط إلى مواد بتروكيماوية يدخل
في صميم هذه السياسة، نظراً إلى الطلب العالمي المتزايد على تلك المنتجات".
وفي مقارنة بين سياسات السعودية والولايات
المتحدة قال المهنا إن واشنطن بدأت تتحول في الآونة الأخيرة نحو نهج أكثر
واقعية، أقرب إلى السياسة السعودية، بعدما أثبتت نظرية التحول السريع من
الوقود الأحفوري إلى المتجدد أنها "جيدة نظرياً، لكنها صعبة التطبيق
عملياً، وقد تكون لها آثار عكسية".
وأشار المسؤول السابق إلى أن تجارب حديثة
مثل انقطاع الكهرباء في بعض المناطق بإسبانيا، نتيجة الضغط الزائد على
الشبكة الكهربائية بسبب الاعتماد المفرط على الطاقة المتجددة، مضيفاً "حتى
في أميركا، هناك مراجعة للرؤية نحو الطاقة المتجددة لتصبح أكثر اقتصادية،
إلى جانب التفكير في العودة إلى الطاقة النووية".
وحول احتمالية تدخل أميركي في مستويات
إنتاج النفط شدد المهنا على أن "الولايات المتحدة لم تتدخل تقليدياً في
مستويات الإنتاج إلا في حالات خاصة مثل أزمة 2020"، مضيفاً أن "قرارات
الإنتاج تخص مجموعة ’أوبك+‘، والتي تعمل على ضبط السوق وفق معطيات العرض
والطلب بهدف الحفاظ على توازن السوق وتجنب الانهيارات".
في أميركا، هناك مراجعة للرؤية نحو الطاقة المتجددة
لتصبح أكثر اقتصادية، إلى جانب التفكير في العودة إلى الطاقة النووية
وعن تأثير سياسات الطاقة الأميركية في
أسعار النفط العالمية لفت المهنا إلى أن "الإدارة الأميركية، خصوصاً في عهد
ترمب، لديها خطط بعيدة المدى لزيادة إنتاج النفط
من خلال دعم الحفر والتنقيب، لكن هذا يتطلب وقتاً وسعراً مناسباً"، مشيراً
إلى أن "النفط الصخري الأميركي مكلف ويتطلب أسعاراً مرتفعة نسبياً ليكون
مجدياً اقتصادياً".
وحول التباين في الرؤية بين الرياض
وواشنطن، أكد مسؤول الطاقة السابق أن "هناك تنسيقاً مستمراً بين البلدين في
مجالات الأبحاث والدراسات، لكن ذلك لا يعني بالضرورة وجود تنسيق مباشر في
موضوع الأسعار أو الإنتاج"، مؤكداً أن الحوار بين الجانبين يركز على
المصالح الاستراتيجية بعيدة المدى أكثر من التفاصيل اليومية للسوق.
شراكة معقدة ومصالح متقاطعة
من
خلال تحليل سياسات السعودية والولايات المتحدة في قضايا المناخ والطاقة
والتجارة والمساعدات، تظهر ملامح شراكة استراتيجية، لكنها محملة بالخلافات
والتباينات، ومع تحولات المنطقة والضغوط الدولية، يظل التباين بين الرياض
وواشنطن في هذه الملفات عنصراً رئيساً في تحديد مسار العلاقات بين البلدين
في المستقبل.
اندبندنت عربية