سيرياستيبس
منذ سقوط السلطة السابقة في سورية، تسابقت الوجوه الجديدة في الحكومة والهيئات الاقتصادية مدججة بمصطلحات براقة وشعارات مستوردة، لتبشر السوريين بعهد «الاقتصاد الحر التنافسي». حيث يتم تسويق هذا التوجه اليوم لا بوصفه خياراً، بل باعتباره «الحقيقة المطلقة» والمسار الحتمي الوحيد للنجاة من الخراب، وكأن «تحرير السوق» هو التعويذة السحرية التي ستحول الوضع الكارثي في سورية إلى حالة رخاء عامة. والخطورة في هذا الطرح لا تكمن فقط في تجاهله للواقع الكارثي الذي تعيشه البلاد، بل في كونه يؤسس لشرعية جديدة للنخب الفاسدة ذاتها التي اعتاشت على عذابات السوريين خلال العقود الماضية. ويجري العمل بشكل متسارع على تقييد المواطن السوري أكثر بأغلال «السوق»، حيث يطلب أصحاب هذا التوجه من الدولة أن ترفع يدها عن كل شيء، وتترك المجتمع «حراً» في مواجهة قوى اقتصادية لا ترحم. وهذا التوجه، الذي يصور كنموذج متماسك وعصري، هو في حقيقته قفزة في المجهول، ومحاولة لإعادة إنتاج الفساد القديم ولكن بعباءات جديدة وقوانين «عصرية»، تضع مصالح قلة من المنتفعين فوق مصلحة ملايين المسحوقين الذين دفعوا ثمن التغيير دماً وقهراً.
لعل أكبر خدعة يتم تمريرها اليوم على الشعب السوري هي إيهامه بأن ما يسمى بـ«الاقتصاد الحر التنافسي» هو نموذج موجود وقائم في الدول المتقدمة، وأنه سر نجاحها. والحقيقة أن هذا المفهوم، بصورته المطلقة التي يروج لها منظرو السلطة الجديدة، هو «مدينة فاضلة» رأسمالية لم توجد يوماً على أرض الواقع. إنه بناء نظري هش لا يصمد أمام الحقائق التاريخية ولا أمام التحليل الاقتصادي الرصين. يتم الزعم بأن السوق الحر هو فضاء طبيعي، بلا قيود أو تدخلات، وهذا كذب محض، فكل سوق، مهما بدا محرراً، هو مكبل فعلياً بقواعد وتشريعات وسياسات تحدد من يربح ومن يخسر، وهذه القيود تتغير باستمرار بتغير مصالح النخب. إن الترويج لهذا النموذج في سورية اليوم، وهي دولة محطمة البنية التحتية والمؤسساتية، ليس سذاجة اقتصادية فحسب، بل هو «مذبحة» تهدف إلى تجريد الدولة من أدواتها الممكن استخدامها في الحماية الاجتماعية والتنمية. إنه ترك للاقتصاد الوطني ساحة مستباحة للشركات الكبرى واللصوص الجدد تحت ذريعة «التنافسية» الزائفة. وهذا التحول يعني أن «تحرير السوق» ليس هدفاً بحد ذاته لخدمة المجتمع، بل هو مجرد غطاء شعاراتي يهدف إلى نقل الثروات المنهوبة من كبار الفاسدين السابقين إلى كبار الفاسدين الحاليين، وتحويل المواطن من صاحب حق إلى متسول على موائد الأغنياء الجدد.
أكذوبة «السوق الحر» وحقيقة الحمائية التاريخية
للرد على هذه التوجهات التي تحاول أن تصور نفسها على أنها «جديدة»، يجب أن نبدأ بتفكيك مصطلح «السوق الحر» ذاته. وأول ما يجب فهمه هو أن مفهوم «الحرية» في السوق لم يكن يوماً مسألة ثابتة، بل تعريف سياسي يتغير بتغير الفترات التاريخية وبقوة الفاعلين فيه. فما كان يعتبر تدخلاً سافراً في حرية السوق قبل قرنين (مثل منع العبودية أو تحديد ساعات عمل الأطفال)، أصبح اليوم مبادئ أخلاقية واقتصادية راسخة. ما يعني أن السوق ليست كياناً طبيعياً بل كياناً «مصمماً» بقواعد وقوانين تتطور بتطور المجتمعات ذاتها وتطور ضروراتها. في الحالة السورية الراهنة، عندما يتحدث الكثير من المسؤولين الجدد عن «تحرير السوق»، فهم لا يقصدون حرية الابتكار أو المنافسة العادلة فحسب، بل يقصدون في الجوهر «حرية» أصحاب رؤوس الأموال في مراكمة الأرباح دون مسؤولية اجتماعية. يريدون «حرية» الاحتكارات في سحق المستهلك دون رقابة فعالة من الدولة، و«حرية» المشغلين في استغلال العمالة السورية الرخيصة دون ضمانات وحقوق، بحجة أن أي تدخل للدولة سيشوّه «آلية السوق». هذا التفسير الانتقائي للحرية، والذي نراه اليوم في العديد من المقالات والتصريحات الرسمية، يخدم فئة واحدة فقط، وهي فئة أمراء الحرب الذين يجدون في غياب التنظيم فرصة لتبييض أموالهم المنهوبة من عقود الحرب. النقطة الثانية والأكثر خطورة التي تضرب في صلب السياسة الاقتصادية الجديدة في سورية هي تجاهل التاريخ الاقتصادي للدول الغنية نفسها. يروجون لفكرة أن سورية يجب أن تفتح أسواقها بشكل كامل، وتلغي التعرفة الجمركية، وتصبح «تنافسية» مثل الدول الغربية. لكن التاريخ يثبت أن الدول «المتقدمة» نفسها التي يهواها أصحاب هذا الطرح، مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا، لم تصل إلى الثراء والنمو عبر التجارة الحرة، بل عبر أشرس أنواع الحمائية وتدخل الدولة. حيث قامت هذه الدول بحماية صناعاتها الناشئة بأسوار جمركية عالية، وقدمت لها الدعم الحكومي والمنح حتى اشتد عودها، وحينها فقط بدأت تطالب الدول الأضعف بتحرير أسواقها. هذا يسمى في الأدبيات الاقتصادية بـ«ركل السلم»، حيث يمنع المتقدمون الدول الصاعدة من استخدام الأدوات ذاتها التي أوصلتهم للقمة. تطبيق هذا المنطق على سورية يعني نتائج كارثية حتمية. فكيف يمكن أن يطلب من مصنع نسيج سوري مدمر جزئياً، يعاني من انقطاع الكهرباء وندرة المواد الأولية، أن ينافس «بحرية» البضائع التركية أو الصينية أو الأوروبية التي تتمتع بضمانات حكومية وتكنولوجيا متطورة؟ هذه ليست منافسة، هذه مذبحة اقتصادية كاملة الأركان. حيث أن فتح الأسواق السورية تحت شعار «الاقتصاد الحر» يعني عملياً القضاء على ما تبقى من الصناعة الوطنية، وتحويل سورية إلى مجرد سوق استهلاكي للبضائع الأجنبية ومصدر للمواد الخام الرخيصة.
ما تحتاجه سورية، وفق منطق النمو الاقتصادي التاريخي، ليس المزيد من الانفتاح الأعمى، بل حمائية تدعم الإنتاج الوطني وتحافظ على دعم الدولة الاستراتيجي لإعادة بناء القدرات الإنتاجية والصناعية، تماماً كما فعلت كل دولة نجحت في الخروج من التراجع الاقتصادي. والادعاء بأن السوق سيقوم بهذه المهمة تلقائياً في سورية هو مجرد ادعاء زائف، فالسوق في ظروف التخبط والمخاطر العالية لا يتجه نحو الاستثمار الطويل الأجل في القطاعات ذات الأولوية لحياة السوريين ورفع مستويات معيشتهم، بل يتجه نحو المضاربة العقارية والمالية والربح السريع بأي ثمن.
ديكتاتورية الاحتكار وخرافة «اليد الخفية»
يستند خطاب السلطة الجديدة إلى الأسطورة الكلاسيكية للرأسمالية: أن المنافسة الكبيرة بين عدد كبير من الشركات ستؤدي تلقائياً إلى أفضل جودة وأقل سعر. لكن هذا التصور لا ينتمي إلى واقعنا الاقتصادي المعاصر، بل إلى كتب الاقتصاد التي صدرت قبل قرنين. الواقع الرأسمالي اليوم تسيطر عليه بوضوح احتكارات القلة والشركات العابرة للقارات التي تملك قوة تفاوضية وميزانيات تفوق ميزانيات العديد من الدول. والحديث عن «سوق تنافسي» في سورية، بينما يتم فتح الباب لهذه الشركات العابرة، أو السماح بظهور «حيتان محلية» من تجار الحرب السابقين الذين يسيطرون على قطاعات كاملة، هو مجرد تضليل متعمد يخدم مصالح هذه الفئات. فوق ذلك، فإن الاعتقاد بأن القطاع الخاص دائماً أكثر كفاءة من القطاع العام هو انحياز أيديولوجي بحت لا يمت للواقع بصلة، تروج له النخب للاستيلاء على ما تبقى من ثروات، ولكنه يتعارض مع أدلة كثيرة من دول شهدت نمواً حقيقياً. لقد أثبتت تجارب دول شرق آسيا (لن نقول الصين حتى لا يشعر بعض المتحاملين عليها بالحساسية، بل حتى كوريا الجنوبية في الستينيات مثلاً) أن الدولة وحدها هي القادرة على لعب دور رائد الأعمال الحقيقي، حيث تتحمل الدولة مخاطر المشاريع الاستراتيجية الكبرى التي يتهرب منها القطاع الخاص لكونها ذات عائد بعيد المدى، مثل صناعة الصلب أو بناء الموانئ الاستراتيجية في ظروف الحرب أو ما بعدها. تخلي الدولة السورية الآن عن دورها الاستثماري والاكتفاء بدور «المنظم» بحجة تشجيع التنافسية، يعني حكماً ببقاء البلاد بلا بنية تحتية حقيقية لزمن طويل، لأن القطاع الخاص في مرحلة التخبط الحالية سيتجه نحو الريع والاستيراد بهدف الربح السريع، وليس نحو الإنتاج بهدف ضمان الفوائد الاجتماعية طويلة الأمد. إلى جانب ذلك، فإن محاولة السلطة الجديدة استيراد نموذج «الحد الأدنى من دور الدولة»، وهو أمر بدأته وسرعّته سلطة بشار الأسد سابقاً، وتطبيقه في بلد مدمر هو تجاهل لدروس التاريخ. فالاقتصادات التي نهضت من الركام لم تنهض بفضل «اليد الخفية» المزعومة للسوق، بل بفضل «اليد المرئية والموجهة» للدولة التي خططت، واستثمرت، ووجهت الموارد نحو القطاعات الحيوية لضمان العدالة وتلبية الحاجات الأساسية. وفي سورية، حيث الموارد الحكومية شحيحة جداً بفعل السياسات السابقة والحالية، فإن ترك توزيع هذه الموارد الشحيحة لـ«آلية السوق» يعني أن الكهرباء ستذهب لمن يدفع أكثر وستحرم الغالبية الساحقة من الشعب السوري من الاستفادة منها. حيث السوق أعمى أخلاقياً، يوجه الموارد نحو «الطلب الفعال» أي نحو من يملك المال، وليس نحو الحاجة الحقيقية للناس. ما يجعل من إلغاء دور الدولة التخطيطي في سورية بمثابة قرار بترك المواطنين فريسة للجوع والعوز. وخلافاً للخطابات الرنانة، فإن ما يحدث فعلياً هو أن «التنافسية» ستتحول في الواقع السوري إلى سباق نحو القاع. فالشركات المحلية، في سعيها للبقاء أمام المنافسة الأجنبية غير العادلة ومع غياب دعم الدولة، لن تنافس عبر تحسين الجودة أو التكنولوجيا (لأن ذلك مكلف)، بل ستنافس عبر خفض التكاليف: أي خفض الأجور، وتقليل شروط السلامة، وزيادة التهرب الضريبي، والغش في المواصفات. وهذا النوع من المنافسة يدمر المجتمع ولا يبني اقتصاداً مستداماً، ويحول العمال السوريين إلى قوة عمل منهكة ومستغلة، وكل ذلك لكي تظل بضع شركات قادرة على مراكمة الأرباح الطائلة.
التنمية كحق: تفكيك الإفقار كآلية للضبط الاجتماعي
الترويج لنموذج «الاقتصاد الحر التنافسي» في سورية اليوم ليس مجرد خطأ عابر، بل هو مسار يهدد بتقويض ما تبقى من النسيج الوطني. ففي أرض عانت من أقصى درجات الظلم والفقر، كان التوقع المنطقي هو الانتقال إلى نموذج اقتصادي قائم على العدالة الاجتماعية الذي يعالج آثار الحرب بحق. لكن ما يجري هو العكس تماماً، إذ يتم استخدام مفاهيم السوق لتحويل الألم والمعاناة إلى فرص للربح، مما يكرس الظلم ويقضي على أي أمل حقيقي في التعافي السوري. الغاية النهائية لمسار تحرير السوق في ظل هذه الظروف ليست النمو، بل هي تثبيت أقدام النخب الجديدة والقديمة عبر الإفقار الممنهج. والإصرار على تدمير القوة الشرائية للمواطنين، ورفع الدعم بشكل كامل، ليس سوء إدارة، بل قد يرقى إلى أن يكون آلية للضبط الاجتماعي عبر التجويع. وهذا التحول المأساوي ينقل سورية إلى دولة الاستبداد السوقي، حيث القمع لا يحتاج إلى دبابة أو مخابرات، بل تكفي فيه آلية العرض والطلب المشوهة والمنحازة. وتتجلى قمة هذا الانهيار في الإصرار على تبني نماذج استثمارية مثل (BOO)، خاصة في القطاعات الحيوية كالكهرباء. وهذا النظام ليس مجرد تفويض لإدارة استثمار ما، بل هو بيع كامل للسيادة الوطنية على البنية التحتية الأساسية. وهذا التخلي يذهب أبعد من الاقتصاد، حيث إنه يرهن الأجيال القادمة أيضاً. والأمر لا يقف عند الرهن المستقبلي، بل يطال العدالة الانتقالية المغدورة. إن مفهوم «الاقتصاد الحر التنافسي» هو النقيض الواضح للعدالة الانتقالية في سورية. كيف يمكن الحديث عن عدالة انتقالية حقيقية عندما تكون السياسات الاقتصادية مصممة لتبييض ثروات الفاسدين والناهبين؟ «الاقتصاد الحر التنافسي» الذي يقدم اليوم كحتمية تاريخية لسورية، ليس سوى وهم خادع، وغطاء أيديولوجي ركيك لتبرير جولة جديدة من النهب المنظم. لقد أظهر هذا الطرح تناقضه التام مع الحقائق التاريخية لنهوض الدول الغنية ذاتها، وكشف عن وجهه كآلية لإعادة تدوير الفساد القديم. والإصرار على تدمير ما تبقى من شبكات الحماية الاجتماعية ورفع يد الدولة عن القطاعات الحيوية، ليس إلا تفويضاً رسمياً لقوى الاحتكار المحلية والدولية لممارسة مذبحة اقتصادية ضد المواطن، وتحويل سورية إلى سوق استهلاكي هش ومورد رخيص للمواد الخام، مما يقضي على أي أمل في الاستثمار طويل الأجل. نحن اليوم أمام مفترق طرق وجودي: إما الاستسلام لهذا النموذج الذي يكرس الإفقار كاستراتيجية ضبط اجتماعي ويفوت فرصة العدالة الانتقالية بشكل نهائي، أو مواجهته بالنموذج البديل القائم على العدالة الاجتماعية. إن النخبة التي تروج لهذا الوهم لا تسعى للنمو، بل تسعى لإغراق الشعب في هاوية العوز المطلق.
قاسيون
|