سيرياستيبس  
 
 منذ أن سمحت الحكومة للمواطنين بالتعامل بالدولار بحرية دون عقوبات قانونية، بدأت سوريا تشهد دولرة شبه كاملة في معظم جوانب الحياة الاقتصادية. من المحلات التجارية الصغيرة إلى سوق العقارات والمناقصات الحكومية، أصبحت الدولار اللغة الرئيسية في التعاملات. ومع تدهور الثقة في الليرة وتذبذب أسعار الصرف، أصبحت العملة المحلية مجرد وسيط رمزي في الاقتصاد الذي أصبح يدور حول الدولار. مصادر القطع الأجنبي قبل انهيار النظام السابق، كانت مصادر سوريا من العملات الأجنبية محدودة ومعروفة: التحويلات المالية من الخارج، الرسوم القنصلية، إيرادات السياحة والصادرات. وفق تقديرات غير رسمية، كانت إيرادات البنك المركزي السوري من الدولار لا تتجاوز 3-4 مليارات دولار سنوياً. لكن مع التغيرات السياسية والاقتصادية الأخيرة، تغيرت مصادر الدولار بشكل غير متوقع. فزيادة التحويلات المالية من الخارج بعد الأحداث الأخيرة ساعدت على تحسين السيولة، ولكن في الوقت نفسه، تراجعت إيرادات الحكومة من الرسوم القنصلية والضرائب بعد إلغاء بعض الإجراءات السابقة. كما أن الصادرات المحلية تأثرت سلباً بسبب تراجع الإنتاج وارتفاع التكاليف. ومن المفارقات التي شهدتها البلاد، أن تدفق كميات من الدولار من مناطق شمالية كانت خارج سيطرة النظام السابق أسهم في زيادة المعروض من العملة الأجنبية مؤقتاً. هذا التغير منح انطباعاً زائفاً بالاستقرار، رغم أن السؤال يبقى: هل ستستمر هذه الموجة من السيولة أم ستعود الاضطرابات مجددًا؟ بين التفاؤل والقلق نقلت جريدة الأخبار اللبنانية عن خبير مصرفي، أن السوق السوري لازال يتداول كميات كبيرة من الدولار، ما يقلل من احتمال انهيار سعر الصرف في المستقبل القريب. ولكن هذا التفاؤل لا يخفي حقيقة أن القلق بشأن الوضع العام دفع العديد من السوريين إلى تحويل أموالهم إلى الخارج أو إلى حسابات في دول مجاورة، مما يعني خروج جزء من السيولة الدولارية من الدورة الاقتصادية المحلية. هذا التحويل قد يؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار في المستقبل، مما يعيد البلاد إلى أزمة نقص السيولة. إذا استمرت هذه الدينامية، قد نعود إلى حلقة مفرغة من عدم التوازن بين العرض والطلب، ما سيؤدي إلى تراجع قيمة الليرة بشكل أكبر، وبالتالي تثبيت الدولرة كواقع اقتصادي لا يمكن التراجع عنه. فقدان الثقة بالليرة الدولرة ليست ظاهرة جديدة، إذ سبق أن شهدت دول مثل لبنان والعراق والإكوادور هذه الظاهرة، حيث لجأت حكوماتها إلى الدولار كوسيلة للحد من التضخم وتثبيت الأسعار. ولكن الوضع في سوريا مختلف؛ فالدولرة هنا ليست نتيجة لقرار سياسي منظم، بل هي تسوية فرضها الواقع، بسبب انهيار المؤسسات النقدية والمالية بعد سنوات من الحرب. في حال أسهمت الدولرة في تهدئة السوق جزئيًا، فإنها في نفس الوقت تحرم الحكومة من أدوات السيادة الاقتصادية الأساسية مثل إصدار العملة وإدارة السياسة النقدية. المخاطر الاقتصادية والاجتماعية على المدى المتوسط، تحمل الدولرة في سوريا العديد من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية. من أبرزها احتمال تسجيل انكماش اقتصادي حاد خلال مرحلة إعادة الإعمار، حيث لن تتمكن الحكومة من تمويل الإنفاق العام عبر السياسة النقدية، مما سيؤدي إلى تقشف واسع النطاق. كما سيواجه الفقراء في المناطق الريفية نقصًا حادًا في السيولة الدولارية، مما قد يخلق سوقًا سوداء جديدة ويزيد الفوارق الطبقية بين من يمتلكون الدولار ومن يعتمدون على الليرة. كما أن استمرار التعامل بالدولار على المدى الطويل قد يجعل من الصعب استعادة الثقة في أي عملة وطنية جديدة مستقبلاً. فعندما يعتاد الناس على استقرار الدولار، سيكون من الصعب إقناعهم بالعودة إلى عملة محلية، مهما كانت مدعومة سياسيًا. وهناك أيضًا خطر انتشار “الدولار المزيف”، مما سيزيد من تعقيد الوضع. نحو سياسة نقدية انتقالية قد يكون الحل الأكثر واقعية في المرحلة الحالية هو السماح بالدولرة جزئيًا أو بشكل مرحلي، مع تحديد مجالات معينة مثل التجارة الخارجية والعقارات التي يتم التعامل فيها بالدولار، مع الحفاظ على العملة الوطنية لإدارة الرواتب والضرائب. هذا قد يشكل حلاً مؤقتًا يوازن بين الحاجة للاستقرار والحفاظ على الحد الأدنى من السيادة المالية. وبجانب ذلك، يُعد تأسيس هيئة نقدية مستقلة هدفًا ضروريًا لإعادة بناء الثقة في المؤسسات المالية. ويجب وضع خطة زمنية واضحة لإصدار عملة وطنية جديدة عندما تسمح الظروف السياسية والاقتصادية بذلك. في النهاية، فإن الدولرة ليست حلاً دائمًا بقدر ما هي مجرد “هدنة” اقتصادية. على الرغم من أنها قد توفر استقرارًا مؤقتًا وتخفف من التضخم، فإن استمرارها بلا أفق زمني قد يتحول إلى عبء دائم، مما يربط الاقتصاد السوري بسياسات نقدية خارجية يصعب التحكم فيها. 
 
 
  
 
       	             	          |