
سيرياستيبس : يعد قرار حذف الأصفار من العملة
الوطنية إجراءً تقنياً بحتاً، يعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ«إعادة
القياس Redenomination». وهو لا يغير في جوهره من القيمة الحقيقية للعملة،
بل يهدف فقط إلى تبسيط التعاملات المالية وتقليل عدد الأصفار في الأرقام
الكبيرة، والتي أصبحت سمة مميزة لاقتصادات التضخم المفرط.
ولفهم هذا المفهوم بشكل مبسط،
يمكن القول: إذا كان سعر سلعة ما اليوم يبلغ 10,000 ليرة سورية، فإن حذف
الصفرين سيجعل سعرها 100 ليرة جديدة. وبالمثل، فإن راتب الموظف الذي يبلغ
مليون ليرة قديمة سيتحول إلى 10,000 ليرة جديدة. وفي كلتا الحالتين، فإن
القوة الشرائية للمواطن لم تتغير. فلا هو يستطيع شراء سلع أكثر مما كان
يشتري سابقاً، ولا التاجر سيحصل على إيرادات أقل. حذف الأصفار يشبه تماماً
قرار تغيير وحدة القياس من السنتيمتر إلى المتر، فالعلاقة بينهما ثابتة (1
متر = 100 سم)، لكنك تستخدم رقماً أصغر للتعبير عن الطول نفسه. وبالطريقة
ذاتها، القيمة أو الوزن الحقيقي للعملة يظل ثابتاً، والفرق الوحيد هو في
المقياس.
يزعم المؤيدون لهذا الإجراء أنه
يمثّل استجابة لمشكلة عملية. فبعد سنوات من التضخم المفرط، أصبح تداول
الأوراق النقدية بآلاف وملايين الليرات أمراً مرهقاً وغير عملي، سواء
للمستهلكين أو لأنظمة المحاسبة في البنوك والشركات. لكنهم يغفلون حقيقة
أكثر عمقاً، وهي أن تركيز السلطات على هذا الجانب الشكلي، هو اعتراف ضمني
بأن السلطات أعلنت استسلامها في عملية التحكم بقيمة العملة، فأصبحت تسعى
فقط إلى «تيسير التعامل بها». وعليه، حتى لو سلمنا بفكرة أن هذه الخطوة
ستسهل التعامل بالليرة، إلا أنها لا تعالج جوهر المشكلة: لماذا انهارت قيمة
العملة إلى هذا الحد؟
إن دحض الادعاءات التي تربط هذا
الإجراء بتحسين القوة الشرائية أو كبح التضخم يتطلب فهماً أعمق للأسباب
الحقيقية للأزمة. فالقوة الشرائية للعملة تحددها عوامل الاقتصاد الكلي
الحقيقية، ومن أبرز هذه العوامل: ضعف الإنتاج المحلي، حيث يعتمد الاقتصاد
السوري بشكل كبير على الواردات بدلاً من تعزيز الإنتاج المحلي. ونقص
الاحتياطيات الأجنبية الكافية لدعم العملة. والعجز المالي، حيث يتم تمويل
الإنفاق الحكومي عبر طباعة النقود، مما يغذي التضخم بشكل مباشر.
وعليه، لكي يعطي حذف الأصفار أي
نتيجة إيجابية فعلية، لا بد من توفر شروط اقتصادية كبرى غير متحققة في
سورية اليوم. حيث يحتاج استقرار العملة في مثل هذه الخطوة إلى تحفيز القطاع
الإنتاجي، وسياسات توزيع ثروة عادلة، وسياسات نقدية ومالية صارمة ومتوازنة
وخالية من التلاعب. وليس في سورية أي إشارات على نية لتطبيق مثل هذه
السياسات المصاحبة. فالنظام الاقتصادي المهيمن يتمحور حول «اقتصاد السوق
المفتوح» دون رقابة، مع تضخم مالي كبير ونقص حاد في العملة الصعبة. وفي مثل
هذه الظروف، تؤكد دراسات حالة دول حاولت أن تزين وتجمل التضخم وأن إعادة
تقييم العملة تصبح «مضيعة للوقت» ما لم تعالج مسببات التضخم الحقيقية. قاسيون
ولذلك، فإن أي إجراء نقدي، بما
في ذلك حذف الأصفار، لن يغير من هذا الواقع ما لم يترافق مع تغيير اقتصادي
جذري يدعم الإنتاج المحلي، ويحسن الميزان التجاري، وينهي النهب والفساد.
وفي غياب هذا التغيير، ستظل هذه الخطوة مجرد رقم إضافي في سجل الأزمات، بل
وستدفع للمزيد من إفقار السوريين، حيث ستفتح الباب أمام موجة جديدة من
التضخم المقنع تسمح للتجار برفع الأسعار «لتسهيل الحسابات» أو «لتعويض
تكاليف التحويل»، وهو ما حدث في تجارب سابقة عندما استغل التجار عمليات
إعادة التقييم لرفع الأسعار بشكل غير مبرر. وبدلاً من أن تكون الخطوة حلاً،
تصبح عبئاً إضافياً على كاهل المواطنين الذين سيدفعون ثمن الارتباك
الإداري والاقتصادي الناتج عن هذه العملية.
|