سيرياستيبس :
وسط
أزمة اقتصادية خانقة، يواجه آلاف السوريين المفصولين من وظائفهم مأزقاً
مالياً مزدوجاً: فقدان الدخل من جهة، وملاحقات قانونية من جهة ثانية بسبب
عجزهم عن سداد القروض الشخصية المرتبطة بكفلاء من القطاع العام. منهم ميساء
دربولي، الموظفة السابقة في القطاع الصناعي، والتي لم تكن تتخيّل أن
توقيعها على قرض شخصي سيقودها إلى مواجهة الملاحقات القانونية. في سورية،
تعتمد القروض المصرفية
على وجود كفلاء من الموظفين في القطاع العام لضمان السداد، لكن الأزمة
الاقتصادية ضربت الجميع، حتّى أولئك الذين شكلوا الضمان المالي لهذه القروض.
وتقول الأربعينية بأسى لـ"العربي الجديد" إن "الموظف الذي كفلني لدى البنك
جرى فصله هو الآخر، فأصبحت بلا وظيفة وبلا ضمان، وأمام تهديد مباشر بالحجز
على منزلي أو حتى السجن".
مثلها، هناك العشرات ممّن وجدوا أنفسهم أمام
مصير مجهول، مع إنذارات متكرّرة من البنوك، إذ لم تأخذ المصارف في الحسبان
هشاشة الوضع الاقتصادي الحالي، تاركةً هؤلاء الموظفين في دوامة من الخوف
والعجز عن إيجاد حل لإنقاذ ممتلكاتهم من الضياع. عندما فقد هاشم الأشقر،
الموظف السابق في وزارة الدفاع، وظيفته، لم يكن القلق الأكبر مجرد غياب
راتبه، بل كان الديون المتراكمة التي بدأت تطارده بلا هوادة. كان قد حصل
على قرض شخصي قبل عام بحوالى 10 ملايين ليرة سورية أي ما يعادل ألف دولار،
معتمداً على وجود كفيل من زملائه في القطاع العام. لكن مع قرار فصل الكفيل
أيضاً، أصبحت الضغوط المالية أشد، إذ بدأت البنوك بإرسال إشعارات قانونية
تلو الأخرى.
ويقول الخمسيني بصوت تخنقه الحيرة لـ"العربي
الجديد": "لم أكن أظن أن تسريحي سيعني أنني سأواجه قضية قانونية قد تنتهي
بالحجز على منزلي". وفي ظل هذه السياسات المصرفية، وجد الأشقر نفسه في سباق
يومي لإيجاد عمل جديد قبل أن تتحول مشكلته المالية إلى مأساة قانونية لا
مفرّ منها، مثل كثيرين من زملائه الذين باتوا رهائن للأوضاع الاقتصادية
المتدهورة.
بداية لملاحقات قانونية بحق السوريين
يواجه الموظفون المفصولون أزمة مالية خانقة،
إذ ترتبط القروض الشخصية بضمانة موظفي القطاع العام، وهو ما يجعل فقدان
الوظيفة ليس مجرد خسارة للدخل، بل بداية لملاحقات قانونية قد تنتهي بالحجز
على الممتلكات أو حتّى السجن. ويعود تقدير كتلة القروض وتأثيرها إلى مصرف
سورية المركزي، الذي يتولى الإشراف على النشاط الإقراضي للمصارف المحلية.
رغم أن هذه القروض تمثل نسبة متواضعة من إجمالي التسليف المصرفي، إلّا أنها
تبقى أموال المودعين التي تُعد حقاً لهم، ما يفرض إجراءات استرداد صارمة
دون النظر إلى الظروف الطارئة التي يواجهها المقترضون.
ويختلف سقف القروض بحسب المصرف، إذ يصل الحد
الأعلى إلى 50 مليون ليرة لدى المصرف التجاري السوري، و25 مليون ليرة لدى
المصرف العقاري، في حين اعتمد مصرفا التسليف الشعبي والتوفير سقفاً لا
يتجاوز خمسة ملايين ليرة. ومع اشتراط وجود كفلاء موظفين في القطاع العام
لضمان السداد، يصبح الفصل من العمل أزمة تتجاوز فقدان مصدر الدخل، إذ يؤدي
إلى تعثر مالي حتمي، خاصة إذا جرى فصل الكفيل أيضاً، ما يترك المقترض في
مواجهة إجراءات قانونية صارمة.
إجراءات لتخفيف أعباء السوريين
إلى ذلك، أكد مصدر مسؤول في مصرف سورية
المركزي أن المصرف يتفهم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها
المواطنون، إلّا أنه ملتزم بتطبيق القوانين الناظمة لآليات سداد القروض،
حفاظاً على المال العام وضماناً لاستقرار القطاع المصرفي. وأشار المصدر
لـ"العربي الجديد" إلى أن المصرف اتخذ إجراءات لتخفيف الأعباء عن
المقترضين، كان من بينها تأجيل تحصيل أقساط القروض لمدة شهرين سابقاً،
إضافة إلى إعفاء المتأخرين عن السداد من غرامات التأخير خلال تلك الفترة،
كما أتاح إمكانية سداد القروض بالقطع الأجنبي وفقاً لأسعار الصرف الرسمية
التي يحدّدها المصرف.
وعن الإجراءات المتبعة تجاه المتعثرين في
السداد، أوضح المسؤول أن المصرف لا يلجأ مباشرة إلى القضاء، بل يسعى أولاً
إلى التواصل مع المقترضين ومنحهم مهلة إضافية. وفي حال استمرار التخلف عن
السداد، يجري اتخاذ إجراءات قانونية تشمل رفع دعاوى قضائية قد تؤدي إلى
الحجز على الممتلكات أو اتخاذ إجراءات قانونية أخرى، وأضاف المصدر أن سقف
التسهيلات الائتمانية المباشرة حُدِّد بـ500 مليون ليرة سورية، مع استمرار
منع التسهيلات الائتمانية الدوارة، كما يُمنع منح أي شكل من أشكال القروض
للعملاء المتعثرين حتى تجري تسوية أوضاعهم المالية وفقاً للأنظمة المصرفية.
وفي ما يخص القروض بالقطع الأجنبي، أكد
المسؤول أن المصرف أتاح للمصارف المرخص لها إمكانية منح القروض بالعملات
الأجنبية لتمويل مشاريع استثمارية وتنموية، بشرط أن يكون للمشروع تدفقات
نقدية بالعملات الأجنبية تغطي قيمة الأقساط والفوائد المستحقة، ما يسهم في
دعم الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمار.
غياب المعالجة الجدية لأزمة المصارف
ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور علي محمد أن
معالجة أزمة القروض المتعثرة للموظفين المفصولين تتطلب إعادة النظر في
السياسات المصرفية المعتمدة، مشدداً على ضرورة تقديم حلول واقعية تقلل من
تداعيات الفصل المفاجئ للموظفين. وفي حديثه لـ"العربي الجديد"، أشار إلى أن
غياب أي معالجة لهذه الأزمة سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التعثر المالي، ما
يضع ضغوطاً إضافية على النظام المصرفي، إلى جانب التداعيات الاجتماعية التي
تهدد الأمن الاقتصادي للأفراد والمجتمع.
ويؤكد أن الحاجة باتت ملحّة لإعادة هيكلة
القروض، بحيث يجري تمديد فترة السداد وتعديل قيمة الأقساط بما يتناسب مع
الوضع المالي الجديد للمقترضين، كما أضاف أن إعفاء القروض من العمولات
والفوائد حتى انتهاء مدتها سيساعد في تخفيف الأعباء المالية عن الأسر
المتضررة، إلى جانب إطلاق برامج إقراض خاصة للموظفين المفصولين بهدف
تمكينهم اقتصادياً دون تحميلهم ديوناً إضافية، وأوضح أن إنشاء صندوق دعم
مالي بإشراف الدولة والمصارف الكبرى يمكن أن يكون خطوة ضرورية لتعويض
المتضرّرين وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار المالي لهم.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، يبرز
حجم النشاط الإقراضي للمصارف العامة في سورية بوصفه أحد المؤشرات على
التحولات المالية التي تشهدها البلاد. وخلال عام 2023، بلغت قيمة القروض
المقدمة من مختلف المصارف الحكومية 1288 مليار ليرة سورية، إذ استحوذ
المصرف التجاري السوري على النصيب الأكبر بقيمة 450 مليار ليرة، تلاه
المصرف الزراعي التعاوني بـ 249 مليار ليرة، ثم المصرف العقاري بـ 170
مليار ليرة، فيما بلغت القروض الممنوحة من مصرفَي التسليف الشعبي والتوفير
223 و166 مليار ليرة على التوالي، إلى جانب 30 مليار ليرة من المصرف
الصناعي.
العربي